في 1 سبتمبر 2020 احتفل لبنان بالمئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير. كانت المئوية مليئة بالإنجازات والاخفاقات الا انها في سنتها الأخيرة تزامنت مع انهيار اقتصادي ومالي وتآكل لمؤسسات الدولة اللبنانية. فمنذ ما يقرب من عام، عانى لبنان من أزمات متفاقمة - على وجه التحديد: أزمة اقتصادية ومالية، تلتها جائحة كورونا، ثم انفجار مرفأ بيروت.
يبدو الانهيار وكانه يطوي الصفحة الأخيرة من الفصل الأول من تاريخ لبنان.
حاول اللبنانيون التحرك لإنقاذ ما تبقي من وطنهم الا ان انتفاضة 17 أكتوبر 2019 و التحركات التي تبعت انفجار بيروت لم تؤدِ إلى نتيجة أمام تصلب السلطة الحاكمة وغياب الرؤية السياسية والاقتصادية، إضافة الى تحول كبير في ديناميات الداخل اللبناني والخارج الإقليمي والدولي التي رسمت السياسة اللبنانية لعقود.
ويقف لبنان اليوم امام مفترق خطير، الهاوية والفشل او الإنقاذ والنجاة. حتى لا تطوى صفحة لبنان الى الابد، على اللبنانيين مهمة اختراع لبنان آخر يأخذ بعين الاعتبار دروس الماضي القاسية ويضع نصب عينيه امال اللبنانيين وطموحاتهم وأهدافهم بحياة كريمة ومستقلة وحرة وحقهم في الحياة مثل شعوب العالم.
البداية: نجاح ثم اخفاق
كانت بدايات النموذج الاقتصادي ناجحة. ارتكز النموذج الذي أسس في 1943 استقلالية التجارة وعمل على تطوير وتحديث قطاع الخدمات، عمل نظام مصرفي حديث، انعاش السياحة والتعليم العالي. حصد النموذج أرباح هائلة في وقت الصراع العربي- الإسرائيلي والتأميم في الدول العربية حيث تمكن من استقطاب رؤوس الأموال الى لبنان إضافة الى أموال النفط العربية في الخمسينات.
ولكن بعد ذلك بدأ النظام بالتصدع مع رياح الأزمات وعواصف التناقضات الإقليمية والدولية، وانهار النظام الاقتصادي والسياسي القائم بعد حرب 1967 ودخول لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وتحوله الى دولة مواجهة ثم اندلاع الحرب الأهلية.
سرع الانهيار الصراع الداخلي على البعد الاجتماعي مع رفع اليسار اللبناني قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين والصراع الطبقي بين التجار الذين راكموا الثروات واللبنانيين الذين باتوا يكتشفون غياب تقديمات النظام وحرمانهم منها.
المحاولة الثانية: إعادة احياء تجربة النجاح
انتهت الحرب الأهلية عام 1990.
حاولت السلطة إعادة احياء الصيغة الاقتصادية السابقة ذاتها ولكنها سرعان ما فشلت نتيجة عوامل داخلية وإقليمية. لم تعد وظيفة لبنان الاقتصادية إقليميا ناجحة، اذ سرعان ما اكتشف اللبنانيين ان محيطهم قد تغير، وباتت الكثير من دول الجوار تتفوق عليهم في المجالات التي اتقنها النموذج السابق. فلم يعد لبنان مصرف العرب ولا الجامعة ولا المرفأ ولا صلة الوصل بين الشرق والغرب.
اما داخليا فقد تفشى الفساد وبات السمة الملاصقة للقطاع العام المنتفخ حجما إضافة الى سوء الإدارة والهدر، الأمر الذي ساهم في عجز مستمر للموازنة ومراكمة الدين العام الذي بلغ مستويات قياسية لا يمكن للاقتصاد تحمله.
ساهمت كل هذه العوامل في تفكك الدولة واضمحلالها وتحولها الى دولة فاشلة حتى بلغت الانهيار الكبير هذا العام.
لم يبقى من الدولة الا هيكلها الذي تسيطر عليه الأحزاب الحاكمة وتستغلها في سبيل البقاء والمحافظة على مكتسباتها الحزبية والطائفية، وبات الاقتصاد يعاني من نقاط ضعف هيكلية طويلة الأجل شملت البنية التحتية وقطاع كهرباء معطل، ونقص في إمدادات المياه، وسوء إدارة النفايات الصلبة ومياه الصرف الصحي، إضافة إلى سوء إدارة المالية العامة، والاختلالات الكبيرة في الاقتصاد الكلي، وتدهور المؤشرات الاجتماعية.
2020 : الانهيار الكبير
في أكتوبر 2019، وقع الاقتصاد اللبناني في أزمة مالية نتجت عن توقف مفاجئ في تدفقات رأس المال الوافدة، مما عجل بإخفاقات القطاع المصرفي وقطاع الديون، فضلاً عن ازمة سعر الصرف.
في وقت لاحق، في 7 مارس 2020، تخلفت الحكومة عن سداد سندات دولية بقيمة 1.2 مليار دولار أمريكي، مما يمثل أول تخلف عن سداد الديون السيادية في تاريخ لبنان.
ثم في 18 مارس، أعلنت الحكومة حالة التعبئة العامة، وفرضت إغلاق لمواجهة جائحة كورونا شمل إغلاق الحدود والمؤسسات العامة والخاصة.
وأخيرًا، في 4 أغسطس، هز انفجار هائل مرفأ بيروت، ودمر جزء كبير من المرفأ وألحق أضرار بالغة بالمناطق السكنية والتجارية المحيطة.
انهار الاقتصاد بشكل متسارع وتراكمت الخسائر لتدفع نحو انكماش كبير.
حدثت اضطرابات كبيرة في التجارة وانخفضت الإيرادات المالية وارتفع التضخم الذي ساهم في انتشار الفقر و اغلاق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم ما أدى أيضا الى ارتفاع كبير في معدلات البطالة.
يتوقع البنك الدولي أن ينخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 19.2% في عام 2020 و بنسبة 13.2% في عام 2021.
تدعم كل المؤشرات ركود شاق طويل الأمد نتيجة الافتقار الي سياسات صنع القرار حيث ما زالت استجابات السياسات الكلية غائبة وإعادة اعمار دمار انفجار المرفأ محدودة مع امتداد اثار جائحة كورونا الى عام 2021.
ستستمر أزمة سعر الصرف في خنق التجارة وتمويل الشركات واضطرابات سلسة التوريد، وسيساهم ضعف النظام المصرفي والتخلف عن سداد الديون في الحد من استيراد راس المال بعد ان أغلقت الأسواق المالية العالمية في وجه لبنان.
2021: غرفة الإنعاش
سيتعين على لبنان إعطاء الأولوية لبناء مؤسسات أفضل، وحوكمة جيدة، وبيئة أعمال أفضل، إلى جانب إعادة الإعمار المادي.
ويعد استقرار الاقتصاد الكلي إجراءً أساسي وأولي لعملية تعافي لبنان. هذا الهدف يتطلب من السلطات والبرلمان العمل بسرعة على تنفيذ الإصلاحات المالية، والنقدية، والاجتماعية، وتفعيل نظام الحوكمة الرشيدة حتى لا يستمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي في التدهور.
الالتفات يجب ان يكون سريعا نحو معالجة الخطر الرئيسي: التضخم المفرط، تدهور العملة، ونقص احتياطيات النقد الأجنبي.
التأثير الاجتماعي لهذه العوامل خطير جدا، ويمكن أن يصبح كارثي بسرعة على الفقراء والطبقة الوسطى. نصف السكان يقعون تحت خط الفقر، والبطالة آخذة في الارتفاع بسرعة. وستكون المساعدات الدولية والاستثمارات الخاصة ضرورية للتعافي، وهذا يتطلب إجراءات سريعة وحاسمة، خاصة فيما يتعلق بالإصلاح.
وهناك حل، أو على الأقل خارطة طريق.
كان البنك الدولي قد حدد استراتيجية شاملة لتحقيق الاستقرار المالي الكلي والانتعاش الاقتصادي وإعادة بناء مستدامة لخلاص لبنان تختصر في ما يلي:
(1) برنامج لإعادة هيكلة الديون يهدف إلى تحقيق القدرة على تحمل الديون على المدى المتوسط
(2) إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي من أجل استعادة الملاءة المالية للقطاع المصرفي
(3) إطار جديد للسياسة النقدية يهدف إلى استعادة الثقة في سعر الصرف واستقراره
(4) تعديل مالي مرحلي يهدف إلى استعادة الثقة في السياسة المالية
(5) الإصلاحات المعززة للنمو
(6) تعزيز الحماية الاجتماعية
لبنان المستقبل - ما بعد 2021
ها هو البلد الذي كان يريد ان ينبعث كطائر الفينيق الأسطوري من رماد الحرب المدمرة والمحن والاضطرابات التي عصفت به على مر الزمان يختتم أول مئوية في حضيض يكاد يكون نهايته.
لطالما طغت الجغرافيا على التحولات الداخلية السياسية والاقتصادية في لبنان، وقد يكون هذا صحيح اليوم اكثر من ذي قبل. تمكن النموذج من الازدهار عندما ابتدع وظيفة اقتصادية حولته لمركز مالي وخدمي متقدم، ثم ما لبث ان سقط مع سقوط الدور الإقليمي نتيجة التغيرات السياسية في الداخل الإقليمي وخارجه وانعكاساتها على لبنان.
في عتمة التشاؤم الحالي، ترتفع الرهانات مع التقارب العربي – الإسرائيلي الذي سيكون الدور الإقليمي للبنان ضحيته الأولى.
يحتم واقع الأمر على اللبنانيين الإسراع في محاولات اكتشاف المخارج والحلول قبل نفاذ الطاقات البشرية المهاجرة بحثا عن فرص الابداع والاستقرار. لن يكون المستقبل زاهر في المدى القصير بدون بناء اقتصاد جديد قائم على الإمكانات المتوفرة لدى اللبنانيين من جهة، والمتلائمة مع متطلبات الجوار والعالم من جهة ثانية.
برغم الكثير من الحديث في لبنان اليوم عن الاقتصاد الزراعي والصناعي الا انه لن يكون الا تكرار للفشل كون لبنان سيدخل السباق متأخر جدا وبعد ان دخل العالم مرحلة اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي. قوة لبنان في قدرته البشرية لا في مساحة الأراضي الزراعية ولا الموارد الصناعية المعدومة. هذه القوة المعرفية يجب ان تكون نقطة الارتكاز في بناء النموذج الاقتصادي الحديث والمنافس.
للعمل كي تكون مئوية لبنان القادمة لحظة انتصار واحتفال لا لحظة خوف من الزوال.
لقراءة مقالات أخرى لنفس الكاتب:
مئوية لبنان الكبير: لحظة الانبعاث او الزوال
هل يطلق كورونا عصر العملات المشفرة؟
لبنان في زمن التسويات الكبرى أوالحروب الكبرى
سلطنة عمان : أحلام كبيرة تصطدم بالواقع الصعب؟
كورونا والكويت، كيف يبدو الوضع؟
قرار الطرح العام أو الاستمرار كشركة خاصة.. هل هو اختيار بين جنة ونار؟
العراق الجريح: بلد الفرص الضائعة
السودان: الصفقة والفرصة التي لا تفوت
© Opinion 2020
المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.