بدأت الليرة اللبنانية تتراجع تدريجاً أمام الدولار منذ صيف العام 2019 على وقع الانهيار الاقتصادي الأسوأ في تاريخ لبنان والذي تزامن مع أزمة سيولة حادة وتوقف المصارف عن تزويد المودعين بأموالهم بالدولار.
ويواصل اليوم سعر صرف الليرة أمام الدولار انهياره "الجُنوني" وبشكل غير مسبوق في السوق، حيث وصل إلى 10,700 ليرة، علماً أن السعر الرسمي لدى المصرف المركزي ما زال 1,515 ليرة.
وترافق هذا الانهيار مع تحركات شعبية شهدتها معظم المناطق اللبنانية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية التي باتت صعبة جداً، وعمد العديد من المحتجين الى قطع الطرقات بالإطارات المشتعلة والحجارة في مناطق عدة.
وبالفعل، ينعكس الانخفاض في العملة المحلية على ارتفاع أسعار السلع بشكل هائل، وخاصة أسعار السلع والمواد الغذائية وكل ما يتم استيراده من الخارج وبخاصة النفط والدواء. فوفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي ارتفعت أسعار السلع بنسبة 144%، وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، مع العلم ان هذه النسبة مرشحة للازدياد كلما انخفض سعر الصرف أكثر.
تعددت الأسباب والموت واحد
وتتعدد أسباب تدهور الليرة أمام الدولار من الظروف، الى الأسباب البنيوية والهيكلية للاقتصاد والسياسات المالية والنقدية المتبعة لمعالجة الأزمة والتي عادة ما تترك اثر طويل الأمد.
تتراوح هذه الأسباب من الأفق السياسي المسدود مع فشل الطبقة السياسية الحاكمة في التوصل الى تسوية سياسية لتشكيل حكومة تتخذ الخطوات الإصلاحية المطلوبة منها، الى نضوب الاحتياطات الدولارية للبنك المركزي مع ما يتركه ذلك من أزمة كهرباء خانقة تفتك بما تبقى من الاقتصاد والثقة بالليرة كوسيلة حفظ للثروة والقدرة الشرائية.
المطبعة والتضخم
السبب الرئيسي لارتفاع سعر صرف الليرة أمام الدولار هو أن كمية المعروض النقدي قد ارتفعت كثيرا مقابل شح الدولار في الأسواق. وتشير آخر التقديرات الي ان حجم الكتلة النقدية المتداولة قد ارتفع الى ما يفوق ال 35 تريليون ليرة في حين اختفي الدولار من المصارف والبنك المركزي والأسواق ولم تبق الا كمية صغيرة بيد الصرافين قابلة للتداول.
ويقوم البنك المركزي اليوم بطبع المزيد من الليرة لسببين رئيسيين:
كون نفقات الحكومة اللبنانية أكبر من إيراداتها، وهي تقوم بتغطية الفرق من خلال طباعة الليرة، كي تتمكن من دفع التزاماتها ورواتب موظفي القطاع العام.
كما أن كمية الليرة تزداد بوتيرة أكبر بسبب قيام المصرف المركزي بطباعة العملة لتمكين المودعين من سحب ودائع الدولار من المصارف على سعر الصرف المحدد ب 3,900 ليرة مقابل الدولار.
وبالتالي فإن عملية طبع العملة هذه وتعاظم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، ومع استنفاذ الاحتياطات أو ما تبقى منها في البنك المركزي هو ما يؤدي الى هذه القفزات في سعر صرف الدولار.
المصارف دخلت السوق أيضا
ازدادت وتيرة تدهور سعر الصرف بشكل كبير في الآونة الأخيرة بسبب سحب المصارف لمبالغ كبيرة جداً من الدولارات من السوق. وكان البنك المركزي قد طلب في تعميم صيف 2020 من المصارف زيادة رأسمالها بنسبة 20% بحلول نهاية فبراير، كما طلب منها تكوين حساب خارجي حر من أي التزامات لدى بنوك المراسلة في الخارج لا يقل عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية.
وكان البنك المركزي قد هدد في حال عدم التزام المصارف بتلك المعايير، بان تصبح أسهمها ملك لمصرف لبنان. ولهذا، اضطرت بعض المصارف لجمع الدولار من الصرافين، الأمر الذي سرع من وتيرة صعود سعر الدولار بشكل كبير غداة إعلان مصرف لبنان بدء مراجعة أوضاع البنوك بعد انتهاء المهلة المحددة لها مع نهاية فبراير.
أزمة ثقة
يساهم تراكم الانهيار انعدام الثقة بالليرة كوسيلة لحفظ الثروة والقدرة الشرائية. وما يحدث هنا انه تم طباعة كمية كبيرة من الليرة، وبالتالي فان المواطن اللبناني الذي فقد ثقته بالليرة يلجأ الى استباق الارتفاع في الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية، فيبادر إلى شراء ما تيسر من سلع، ثم يقوم بتحويل ما تبقي معه الى الدولار حفاظا على القدرة الشرائية للمستقبل.
الإشكالية هنا ان الثقة بالليرة باتت معدومة، والهروب منها يشكل طلب إضافي على الدولار عند الصرافين، ما يساهم في ارتفاع سعر الدولار. وفي غياب أي تدفق مالي بالدولار الى الداخل اللبناني نتيجة انعدام ثقة المغتربين والمستثمرين في القطاع المصرفي، يصبح التحكم بالسوق السوداء في حكم المستحيل.
الليرة متروكة لمصيرها
في ظل غياب أي جو سياسي إيجابي في البلد وتقاعس حكومة تصريف الأعمال عن القيام بواجباتها وحيث ان مصير حكومة الإصلاحات ما زال في المجهول يبدو ان البنك المركزي غير قادر او على الأقل لا يريد ان يتدخل لمنع انهيار الليرة.
هذا يعني ان الليرة متروكة لمصيرها تواجه وحيدة حكم اعدام المطبعة والتضخم. التضخم ليس من عمل الله، هو ليس مرض يأتي كالطاعون. التضخم هو سياسة. سياسة تنتهجها الحكومات.
التضخم سياسة انتهجتها سلطة فضلت اغتيال عملتها على القيام بواجباتها.
لقراءة مقالات أخرى لنفس الكاتب:
اقتصاديات ما بعد كورونا... العالم تغير كثيرا
كورونا والاقتصاد ونحن ..كيف سنتغير؟
القطاع المصرفي وامتحان فبراير: (الجزء الثاني)
مئوية لبنان الكبير: لحظة الانبعاث او الزوال
هل يطلق كورونا عصر العملات المشفرة؟
لبنان في زمن التسويات الكبرى أوالحروب الكبرى
سلطنة عمان : أحلام كبيرة تصطدم بالواقع الصعب؟
كورونا والكويت، كيف يبدو الوضع؟
قرار الطرح العام أو الاستمرار كشركة خاصة.. هل هو اختيار بين جنة ونار؟
العراق الجريح: بلد الفرص الضائعة
السودان: الصفقة والفرصة التي لا تفوت
(إعداد: محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)
(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)
© Opinion 2021
المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.