منذ تحرير سعر الصرف في مصر في 6 مارس 2024 ورفع أسعار الفائدة بنسبة 600 نقطة أساس إلى أعلى مستوى في تاريخ مصر الحديث في نفس اليوم، انخفضت أسعار العديد من السلع بنسب تتراوح بين 20 إلى 30% في الشهرين التاليين مقارنة بمتوسطاتها في فبراير 2024.

وتشمل السلع التي انخفضت أسعارها: الحديد، الطعام، السيارات والسلع المنزلية المعمرة على سبيل المثال لا الحصر.

ولم يكن الانخفاض ناتج عن توافر الدولار في السوق الرسمي بسعر أقل من السوق الموازي هو السبب الوحيد لانخفاض الأسعار. فرفع سعر الفائدة الرئيسية إلى  مستوى 28.25% - وهو يفوق معدل التضخم المتوقع في 2025 - أدى إلى سيطرة شبه تامة على توقعات التضخم أو ما يعرف بالـ inflation expectations. 

بالرغم من صعوبة قياس توقعات التضخم بصورة مباشرة، إلا أن الانخفاض الحاد في أسعار الأصول التي كانت تعد ملاذ آمن ضد التضخم مثل الأسهم والعقار وبيع الدولار للاستثمار في الشهادات بالجنيه المصري بمثابة دليل شبه قاطع على انتهاء موجة تضخمية تشهدها مصر ليس في السنوات القليلة الماضية بل منذ الثمانينات. 

البورصة

بلغ مؤشر البورصة المصرية ذروته التاريخية في يوم 11 مارس 2024، أي بعد تحرير سعر الصرف بـ 5 أيام فقط. 

ومنذ ذلك الوقت وحتى حينه، فقدت الأسهم ما يقارب 20% من قيمتها السوقية بسبب التخوف من تأثر أرباح الشركات بضعف الطلب وانخفاض الأسعار بالإضافة إلى تحول شريحة المتحوطين من التضخم إلى استثمارات أخرى مثل شهادات البنك الأهلي وبنك مصر - أكبر بنكين حكوميين في مصر - ذات العائد المرتفع ولكنه متناقص. 

العقارات

لم ينجو السوق العقاري من التغير المفاجيء في توقعات التضخم.

فبالرغم من استفادة بعض الشركات الكبرى من المشروعات المزمع إقامتها في رأس الحكمة السياحية الساحلية بعد الصفقة الكبرى التي تمت فيها بقيادة الإمارات، إلا أن العاملين في مجال التطوير العقاري يرصدون تباطؤ ملحوظ في المبيعات في السوق الأولي وانخفاض في أسعار الوحدات في السوق الثانوي. 

فهل يقدم المركزي على خفض سعر الفائدة في اجتماع مايو؟ 

من وجهة نظري من المرجح أن يبقي البنك المركزي المصري على أسعار الكوريدور ثابتة في اجتماع لجنة السياسة النقدية المزمع عقده في 23 مايو 2024 بعد دورة تشديد غير مسبوقة استغرقت قرابة عامين.

فبالرغم من تراجع أسعار العديد من السلع خلال شهري أبريل ومايو 2024، إلا أن إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة لمرحلة ممتدة أمر شديد الأهمية لاكتساب ثقة المستثمر خاصة قبل بدء الدولة في خفض دعم الطاقة المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي.

وهناك عدة أسباب هامة تحول دون الإسراع في خفض الكوريدور خلال هذا الشهر:

1- الصدمة التضخمية التالية لتخفيض سعر الجنيه مقابل الدولار لم تنتهي بعد. فمصر مازالت ملتزمة بالإسراع في تطبيق الإصلاحات المالية التي لم تطبقها خلال عام 2023 وأدت إلى تأخر إتمام المراجعتين الأولى والثانية مع صندوق النقد الدولي. وعلى رأس هذه الإجراءات رفع أسعار البنزين والسولار والغاز الطبيعي والكهرباء. 

فعلي سبيل المثال، تعتمد محطات الكهرباء في مصر على الغاز الطبيعي المورد من الهيئة العامة للبترول بسعر توريد يساوي 3 دولار للمليون وحدة حرارية وهو سعر منخفض نسبيا مع زيادة سعر التكلفة الحدية (marginal cost) للغاز الطبيعي عن 3 دولار.

وإذا تم رفع سعر توريد الغاز ولم يتم تعديل تعريفة الكهرباء للمستهلك، ستتفاقم خسائر الشركة القابضة للكهرباء وتتراكم مديونياتها للهيئة العامة للبترول إلا إذا تم تمرير هذا الارتفاع في التكلفة للمستهلك خلال النصف الثاني من هذا العام. ولعل استمرار انقطاع الكهرباء في مصر لمدة تقارب العام لتخفيض فاتورة استيراد الوقود المستخدم في محطات الكهرباء دليل على حجم الضغوط المالية التي يواجهها هذا القطاع  والتي لا يمكن علاجها للأسف إلا من خلال رفع تعريفة الكهرباء.

وطبقا لبيانات رسمية، فإن مديونية وزارة الكهرباء للهيئة بلغت قرابة 170 مليار جنيه في آخر عام 2023. 

2- هناك تضخم خفي لم يظهر بعد نتيجة الارتفاع المتوقع في أسعار الدواء. فمما لا شك فيه أن هناك نقص حاد في العديد من الأدوية نتيجة إحجام الشركات عن الإنتاج بالطاقة الإنتاجية المعتادة خلال الربع الأول من العام الحالي انتظارا لقرار تحريك سعر الصرف والذي يعطي الحق للشركات المنتجة مطالبة هيئة الدواء بتعديل الأسعار.

ومن الجدير بالذكر أن وزارة الصحة لا تصرح للشركات المنتجة بتعديل أسعار المخزون من المنتج قبل قرار تحريك الأسعار وبالتالي تلجأ الشركات إلى خفض معدلات الإنتاج حتى يتم طبع الأسعار المعدلة على العبوات الجديدة.

وطبقا للأخبار المتداولة، من المتوقع تعديل أسعار الدواء بنسب مرتفعة قد تتجاوز 30% قبل نهاية النصف الأول من هذا العام.

3- خفض أسعار الفائدة مبكرا سيضع البنوك الحكومية الكبرى في مأزق. فبنكي الأهلي ومصر، وهما أكبر بنكين حكوميين، اصدرا شهادات استثمار مرتفعة العائد لمدة ثلاث سنوات بعد تحرير سعر الصرف في مارس الماضي، بعائد 30% في العام الأول، 25% في العام الثاني و20% في العام الثالث. 

والسبب الرئيسي وراء إصدار هذه الشهادات كما هو معروف هو دعم جاذبية الجنيه المصري كمخزن للقيمة.

وبالتالي، حتى تتمكن البنوك من تحقيق ربح في ظل ارتفاع تكلفة التمويل، لابد من بقاء أسعار الكوريدور مرتفعة لأطول فترة ممكنة حتى يتسق العائد على الأصول مع تكلفة التمويل.

4- قد تكون النقطة الأشد أهمية في تدفق ما يقارب 20 مليار دولار في أذون الخزانة منذ شهر مارس الماضي، وهو ما يضع البنك المركزي والحكومة المصرية أمام خطر التخارج المفاجئ لهذه التدفقات مثلما حدث قبل بدء الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022. 

وما قد يؤدي إلى هذا الخروج المفاجئ الآن هو تشكك المستثمر الأجنبي بوجود تضارب بين رغبة الدولة في الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة من ناحية والرغبة في دعم النمو قصير الأجل من ناحية أخرى كما كان الحال في عام 2023. 

فالشك في وجود هذا التضارب في حد ذاته قد يؤدي إلى تخارج المستثمر الأجنبي قصير الأجل تجنبا لتعرضه لمخاطر سعر الصرف مرة أخرى. وهذا الشك قد يجد ما يدعمه إذا ما أسرع المركزي إلى خفض سعر الفائدة بعد شهرين فقط من رفعها و قبل تنفيذ خطوات شديدة الأثر على توقعات التضخم كما ذكرت أعلاه. 

 متى يبدأ البنك المركزي في خفض الفائدة؟ 

من المرجح إبقاء البنك المركزي لأسعار الفائدة عند مستواها الحالي خلال اجتماعي مايو ويوليو مع البدء في تخفيضها بواقع 200 نقطة أساس في الاجتماع التالي والذي من المتوقع أن يعقد في 5 سبتمبر 2024.

 وهذا السيناريو يعتمد على المعطيات التالية: 

1- إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة لوقت كاف لامتصاص الأثر الثانوي (second round effects) لتعديل أسعار السلع المحددة إداريا وأسعار الدواء كما تم شرحه أعلاه.

2- التناسق مع بدء الفيدرالي الأمريكي في خفض معدل الفائدة بداية من شهر سبتمبر أيضا بعد عامين من التشديد الحاد، فطبقا لاستطلاعات الرأي، يرى معظم المحللين للاقتصاد الأمريكي أن الفيدرالي سيخفض الفائدة مرتين هذا العام بداية من شهر سبتمبر. 

3- إبقاء سعر الفائدة مرتفعا في مصر إلى شهر سبتمبر سيتوافق مع رؤية صندوق النقد الدولي بضرورة تشديد السياسة النقدية إلى حين استقرار سعر الصرف بدون تدخل المركزي وتراجع معدلات التضخم السنوي إلى تحت ال10%. وابقاء سعر الكوريدور عند قمته الحالية خلال شهري مايو ويوليو بالرغم من ارتفاع الأصوات المطالبة بخفضه هو رسالة طمأنة لصندوق النقد الدولي بأن المركزي المصري يضع نصب عينيه هدفه الرئيسي وهو ضمان استقرار الأسعار.

 

(إعداد: هاني جنينة، محلل اقتصادي ومحاضر بكلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة) 

(للتواصل zawya.arabic@lseg.com) 

لقراءة الموضوع على منصات مجموعة بورصة لندن، أضغط هنا

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا

للتسجيل في موجز زاوية مصر اليومي، أضغط هنا