* خاص من فادي قانصو، الأمين العام المساعد ومدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية

لا شك في أنه خلال السنوات الخمس الماضية قرأنا العشرات من الأوراق والمشاريع الإصلاحية التي قُدمت من أجل إنهاض الاقتصاد اللبناني من واقعه المأزوم والتي لم تكن قابلة للتحقق في حينه.

هذه المرة دعونا نقدم بعض الاقتراحات المرجوة التي يمكن العمل عليها اليوم قبل أن تترسخ الاختلالات الماكرو اقتصادية القائمة أكثر فأكثر.

 

خلفية سريعة جدا

نعلم جيدا أنه مع نهاية العام 2019، شهد لبنان اندلاع أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، ليدخل الاقتصاد المحلي في نفق الركود التضخمي الحاد، ترافق مع انكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بحدود 65%، أي من 51 مليار دولار في العام 2019 إلى حوالي 18 مليار دولار في العام 2023.

 وذلك بالإضافة إلى انهيار غير مسبوق في سعر صرف الليرة اللبنانية بحدود 60 ضعف، من 1,507 ليرة للدولار الأمريكي الواحد إلى حوالي 90 ألف ليرة اليوم، وارتفاع ملحوظ في مؤشر أسعار المستهلكين بحدود 55 ضعف منذ نهاية العام 2019 وحتى تاريخه.

عليه، من البديهي أن يفقد الكثيرون الأمل حول قدرة لبنان على تحقيق التعافي الاقتصادي المرجو.

 في الواقع، إن فرص النهوض في لبنان لا تزال متاحة ولكنها تتطلب بطبيعة الحال مسار إصلاحي شاق وطويل، بدءا بانتخاب رئيس للجمهورية يليه تشكيل حكومة تفعّل عجلة الإصلاحات الهيكلية الضرورية، كما ويتطلب انحسار تدريجي للعوامل الإقليمية المعاكسة.

وهو ما يبدو أقرب للمستحيل!

ولكن حتى يحدث هذا، هناك بعض الملفات المهمة التي يمكن العمل عليها من الآن والتي قد تساهم بتحسين الأوضاع.

 

كلمة السر: البنوك

إصلاح القطاع المالي، لاسيما المصرفي وإعادة هيكلته، نظراً إلى أن وجود قطاع مالي ومصرفي موثوق به يعد مفتاح أساسي لإعادة ربط لبنان مع الأسواق المالية العالمية ويمكن الاستفادة من عدة تجارب إقليمية ناجحة في هذا الشأن مثل التجربة المصرية في أوائل 2000.

كما وأن وجود قطاع مصرفي أصغر وأمتن من شأنه أن يعزّز الإنتاجية وفعالية التكلفة.

إضافة إلى ذلك، فإن سلامة القطاع المصرفي لها تأثير على المخاطر السيادية وبالتالي على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان.

ويجب أيضا تقييم الخسائر وبنية الودائع لكل بنك وذلك لأكبر 14 بنك كخطوة أولى، وعبر ضخ رأس مال جديد في البنوك القابلة للاستمرار.

أما على مستوى الإطار التنظيمي، فالمطلوب أولاً وقبل كل شيء توحيد إجراءات ضبط حركة الأموال بموجب مشروع قانون كابيتال كونترول من أجل ضمان معاملة عادلة ومنصفة لجميع الزبائن والحد من المخاطر القانونية إزاء القطاع المصرفي.

وفي نفس الوقت، يمكن عمل عدة إصلاحات على صعيد التشريعات المصرفية التي تعد أمر ضروري، وإيجاد رؤية مشتركة للخسائر المالية المحققة والتي تقارب 60 مليار دولار.

 

 هل هناك أي خطوات إيجابية تم اتخاذها في الوقت الحالي؟

نعم ولكن ما تحقق حتى الساعة من خطوات يبقى غير كافي بطبيعة الحال.

وقد اقتصرت هذه الخطوات فقط على إقرار موازنة عامة وقانون السرية المصرفية والمباشرة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.

في حين أن ما حصل مؤخراً لناحية إصدار ميزانيات مصرفية بسعر صرف يوازي سعر صرف السوق الموازية، يُعد بلا أدنى شك تطور جيد على طريق توحيد أسعار الصرف المتعددة التي كانت من الأسباب الرئيسية في الفوضى العارمة في القطاع والتي ساهمت بشكل كبير في انهيار سعر صرف العملة المحلية منذ العام 2019.

ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن إصدار ميزانيات مصرفية بسعر صرف موحد، أي 89,500 ليرة للدولار، يشكل تحدي للقطاع المصرفي.

وهذا لأنه سيعكس الصورة الحقيقية لوضعية المصارف على صعيد ماليتها وحجم رساميلها وسيولتها وملاءتها بشكل عام، لاسيما وأنه سيترافق بطبيعة الحال مع تراجع كبير في قيمة رساميل المصارف وفي نسب ملاءتها، عملياً، لتتبخر دفترياً، بعدما فقدتها نظرياً منذ اندلاع الأزمة في نهاية العام 2020.

 مع الإشارة إلى أن التأثير السلبي سيطال نسبة كفاية رأس المال لدى المصارف، أي النسبة التي تحدد مدى قدرة المصرف على تحمل المخاطر الجمة مثل مخاطر الائتمان، والمخاطر التشغيلية وغيرها، والتي من شأنها أن تحمي المصرف والمودعين والمقرضين وبالتالي الحفاظ على الثقة في النظام المصرفي.

 

ماذا يمكن فعله في عجز الموازنة؟

يمكن البدء بتصحيح الاختلالات القائمة على صعيد المالية العامة والتي تعتبر من أبرز عناصر الهشاشة الاقتصادية في لبنان، وذلك من خلال تخفيض النفقات خارج الأجور والرواتب والتحويلات لمؤسسة كهرباء لبنان، وذلك بالتوازي مع مكافحة التهرب الضريبي، بالإضافة إلى إصلاح قطاع الكهرباء عبر بناء محطات الطاقة اللازمة وتقليص الخسائر.

لا يمكن للبنان أن يحافظ على استقراره النقدي والمالي مع نسبة مديونية ضمن أعلى ثلاث نسب في العالم، لاسيما وأن النموذج القائم حول تمويل العجز المالي العام عن طريق نمو الودائع لم يعد قابل للاستدامة.

هناك أيضا مجال لخصخصة بعض المؤسسات العامة عن طريق عقود البناء والتشغيل والنقل، مثل قطاع الاتصالات والطيران والترفيه بما قد يدر بضعة مليارات من الدولارات على الخزينة.

 

ماذا عن تصحيح الاختلالات على صعيد القطاع الخارجي؟

من المهم تحقيق توازن  في ميزان المدفوعات من خلال تحفيز التدفقات المالية الوافدة وخفض الواردات وتعزيز الصادرات.

المطلوب هنا قوننة حركة الرساميل الخارجية من خلال إصدار قانون تشريعي يضبط حركة الرساميل ويتضمن وضع قائمة بالتحويلات الطارئة مع تحديد سقوف عليها.

كما يجب أيضا فرض قيود على استيراد السلع التي لها بدائل محلية الصنع، تسهيل تمويل استيراد المواد الأولية للإنتاج المحلي، بالإضافة إلى فرض قيود على التحويلات الخارجية للعمال الأجانب العاملين في لبنان.

ويمكن أيضا - الآن - زيادة البرامج القائمة لدعم الصادرات، واستحداث برامج تحفيزية جديدة لتشجيع الإنتاج المحلي، تنطوي على رفعٍ للرسوم الجمركية لحماية المنتجات المحلية، وتـأمين حوافز ضريبية للمنتجين المحليين.

 

ما هي أبرز التوقعات إذا باشرنا في تطبيق الإصلاحات اليوم؟

كل التوقعات تشير إلى أن سيناريو المباشرة في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية اليوم من شأنه أن يساهم في خروج لبنان من فخ الركود التضخمي في غضون ثلاث سنوات، أي بحلول العام 2027، على أقل تقدير.

إذ من الممكن أن يصل الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 28 مليار دولار في العام 2027، مع تسجيل نمو اقتصادي إيجابي بحدود 3.5% في المتوسط بين عامي 2025 و2027.

 

في حين أن نسبة التضخم التي سجلت متوسط قدره 221.3% في العام 2023، من المتوقع أن تبلغ 12.1% في العام 2027 وفق هذا السيناريو الإيجابي.

أما نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي والتي تجاوزت 280% في العام 2022، فمن المتوقع أن تصل إلى حدود 80% من الناتج بحلول العام 2027 إذا تم اتخاذ الإصلاحات السابق ذكرها.

في المقابل، إن سيناريو المراوحة القائم حالياً، وإن استمر، فسيكون له تداعيات جمة على الواقع الاقتصادي وقد يعمق الاختلالات الماكرو اقتصادية أكثر فأكثر، مع مزيد من الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي، نسبة تضخم قد تفوق الـ200% ونسبة دين إلى الناتج قد تصل إلى حدود 500%.

في حين أن زعزعة الاستقرار القائم حالياً على صعيد سعر الصرف مرجحة بقوة في ظل هذا السيناريو القاتم، نظراً للقدرة المحدودة لدى مصرف لبنان على التدخل في ظل احتياطياته الأجنبية التي لا تتجاوز 10 مليار دولار حالياً.

 

(إعداد: فادي قانصو، الأمين العام المساعد ومدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية، خبير اقتصادي وأستاذ جامعي)

#تحليلسريع

لقراءة الموضوع على منصات مجموعة بورصة لندن، أضغط هنا

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا

للتسجيل في موجز زاوية مصر اليومي، أضغط هنا