PHOTO
(بول تيلور من كتاب المقالات في رويترز والآراء الواردة في هذا المقال هي آراؤه الشخصية)
من بول تيلور
بروكسل أول أغسطس آب (رويترز) - مرت السنوات والاتحاد الأوروبي يتفادى الطلقات وتمضي به الأيام إلى أن استقرت رصاصة في صدره بالاستفتاء الذي وافقت فيه بريطانيا على الانسحاب من عضوية هذا النادي الناجح لدول القارة.
وأسوأ ما في الأمر أنه لا يمكن استخراج هذه الرصاصة على الفور لتمكين هذا الكيان السياسي من الشفاء بسرعة. سيتقيح الجرح المفتوح لعدة سنوات تجري خلالها مفاوضات الانفصال الأمر الذي يستنزف قوة يحتاجها الاتحاد كي يبرأ من جرحه ويعرضه بدرجة أكبر للطمات أخرى.
لقد أصبح انفصال بريطانيا هو أبرز علامة على اضمحلال أوسع نطاقا لمثال التكامل الأوروبي المتزايد في مختلف أنحاء القارة رغم أن بريطانيا كانت على الدوام أقل الأعضاء حماسا لهذا التكامل.
وبات الاتحاد الأوروبي "موضة قديمة" أشبه بالسترات ذات الصفين من الأزرار وهو الكيان الذي وصفه رئيس المفوضية الأوروبية السابق كريس باتن البريطاني الجنسية في يوم من الأيام بأنه "تجربة رائعة في الجدل حول حصص صيد الأسماك بدلا من إطلاق النار كل على الآخر."
وفي أغلب الأحوال تتجنب القيادات الوطنية على مستوى الدول الحديث عن أوروبا فيما يتجاوز البديهيات. ولا يبدو أن هناك أحدا يذكر في باريس أو برلين أو وارسو أو لاهاي على استعداد للتفكير في الخيارات الصعبة التي ربما تكون مطلوبة الآن لتنشيط الاتحاد الأوروبي ووقف تيار عودة النعرات القومية.
وتطلب الأمر تدخل الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال زيارة لتذكير الأوروبيين بمدى ما وصلت إليه قارتهم بعد ما شهدته من خراب في الحرب العالمية الثانية وما قد تخسره ووصف الاتحاد الأوروبي بأنه "واحد من أعظم الانجازات السياسية والاقتصادية في العصر الحديث."
وقال أوباما في هانوفر بألمانيا في ابريل نيسان "مازالت أوروبا الموحدة -- التي كانت في وقت من الأوقات حلما يراود القلة -- أملا للكثيرين وضرورة لنا جميعا."
ومع ذلك فالأوروبيون المعاصرون يعتبرون السلام والأسواق المفتوحة والحدود المفتوحة من المسلمات ويغتاظون من البيروقراطية والهجرة إلى القارة وفقدان الهوية الوطنية ومن حكام متباعدين بلا حسيب أو رقيب.
وتشمل أعراض رد الفعل المعاكس على إشراك الغير في السيادة صعود نجم الأحزاب الشعبوية المشككة في الوحدة الأوروبية في أغلب بلدان الاتحاد الأوروبي وكذلك عجز ألمانيا وفرنسا اللتين شاركتا في تأسيس الاتحاد عن الاتفاق على سبل تقوية العملة الموحدة التي تشارك فيها 19 دولة وتعد محور المشروع الأوروبي.
* الاتحاد خوفا؟
لم تكن المشكلة البريطانية سوى واحدة من عدة أزمات تهدد معا بقاء الاتحاد الأوروبي ونجاحه.
ويقول لوكاس تسوكاليس أستاذ التكامل الأوروبي بجامعة أثينا وهو من كبار مستشاري السياسات سابقا لدى المفوضية الأوروبية "بالنسبة للمراقب غير المتعاطف ربما يبدو الاتحاد الأوروبي اليوم مثل إمبراطورية أفرطت في التوسع رغم ضعف مركزها مع ارتفاع كبار السن بين سكانها ودخول اقتصادها حالة أشبه بالغيبوبة ورغم التفتت الداخلي المتزايد بالإضافة إلى عالم من المتاعب على حدودها المليئة بالثغرات."
ويجادل تسوكاليس في كتاب جديد بعنوان (دفاعا عن أوروبا) بأن الاتحاد الأوروبي ضحية نجاحه وأن المؤسسات المشتركة والشرعية الديمقراطية لم تساير عدد الأعضاء والأجهزة الذي ظل يتزايد باستمرار.
وقد اجتازت منطقة اليورو أزمة ديون سيادية مؤلمة منذ عام 2010 لكنها لم تنجح في منح الوحدة النقدية مقومات البقاء الكاملة. وتشير أغلب الكتابات الاقتصادية إلى أن ذلك يتطلب ميزانية مشتركة وشكلا ما من الأدوات المشتركة المأمونة للدين العام. وتعارض ألمانيا الاثنين.
وتفادى الاتحاد الأوروبي انفصال اليونان بأعجوبة في العام الماضي غير أن مشكلة ديون أثينا لا تزال دون حل. ولا يزال التباين مستمرا بين اقتصادات منطقة اليورو مع تفشي البطالة المرتفعة والتقشف في الجنوب.
وتزايد الغضب العام بفعل تنامي الفروق في الدخل في معظم المجتمعات الأوروبية وكذلك مشاعر الاستياء في بعض مناطق الغرب بفعل توسع الاتحاد شرقا منذ عام 2004.
وبركوب موجة العداء للعولمة وللهجرة إلى أوروبا يمكن للشعبويين أن يوجهوا مزيدا من الصفعات للوحدة الأوروبية في انتخابات الإعادة الرئاسية في النمسا وفي استفتاء في المجر على حصص المهاجرين في الثاني من أكتوبر تشرين الأول المقبل.
وربما تتمكن هذه القوى نفسها من خلع الحكومة الإيطالية في استفتاء دستوري خلال الخريف والحكومة الهولندية في انتخابات عامة أوائل العام المقبل.
وقد أوقف الاتحاد الأوروبي بصفة مؤقتة الطوفان الذي دفع بأكثر من مليون لاجئ ومهاجر إليه لكنه فشل في توزيعهم على مختلف أنحاء القارة.
والأدهى من ذلك أن الاعتماد على تركيا في القيام بدور حارس البوابة الأوروبية يزداد صعوبة في ضوء الحملة التي يشنها الرئيس رجب طيب إردوغان على خصومه وعلى وسائل الإعلام والقضاء والمجتمع المدني بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو تموز.
وأضعفت هجمات المتطرفين الإسلاميين في فرنسا وبلجيكا وألمانيا من ثقة المواطنين في أن الحدود الداخلية المفتوحة تزيدهم شعورا بالأمان.
وتساءل تسوكاليس "إلى متى يمكن للخوف أن يقرب الأوروبيين؟"
* مشاكل ما بعد الحداثة
ربما كان الاتحاد الأوروبي على وشك بلوغ حدود ما يصفه المفكر والدبلوماسي البريطاني روبرت كوبر بأنه "دولة ما بعد الحداثة". ففي مقال وصف كوبر أوروبا عام 2002 بأنها الأكثر تطورا بين الأمم التي لا تركز على السيادة أو فصل الشؤون الداخلية والخارجية.
ولاحظ أن "الاتحاد الأوروبي... نظام شديد التطور للتدخل المتبادل من جانب كل طرف في الشؤون الداخلية للآخر في كل شيء حتى في البيرة والنقانق."
ولا يزال هذا النموذج منارة يسترشد بها كثير من قيادات الدول وقادة الأعمال في مختلف أنحاء العالم. في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تسعى مجموعات من الدول للاقتداء بالتكامل على غرار نموذج الاتحاد الأوروبي وذلك رغم أن الآسيويين مازالوا أكثر اقتناعا بالسيادة الوطنية.
غير أن أوروبا ما بعد الحداثة تعاني من مشاكل عميقة على أرضها.
وقد كان رد الفعل السائد منذ الاستفتاء البريطاني هو النيل من المفوضية الأوروبية "الوسيط النزيه" غير المحبوب في مركز نظام الاتحاد الأوروبي وتهميش البرلمان الأوروبي ومنح الحكومات الوطنية والنواب في البرلمانات الوطنية المزيد من الصلاحيات.
وانطلاقا من الحنين إلى أوروبا أصغر حجما وأسهل انقيادا تحرص فرنسا وإيطاليا وبلجيكا على أن تسير منطقة اليورو أو مجموعات من الدول ذات التفكير المتشابه قدما في تعميق تكاملها.
وعلى النقيض فقد أطلق قادة أربع دول شيوعية سابقة في وسط أوروبا هي بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا في 20 يوليو تموز تحذيرا جاء فيه "واحد من أسوأ الاستنتاجات التي قد تستخلصها الدول الأعضاء من انفصال بريطانيا هو تقسيم الاتحاد الأوروبي إلى أندية صغيرة."
وثمة بصيص من الضوء في هذه الصورة القاتمة المشوشة لكنه قد لا يعدو كونه بصيصا.
فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في ست دول أن التأييد الشعبي للاتحاد الأوروبي ارتفع إلى أعلى مستوياته منذ عدة سنوات في أكبر دول الاتحاد خلال الأيام التي أعقبت الاستفتاء البريطاني في 23 يونيو حزيران.
وقال فرانسوا كراوس من شركة آي.إف.أو.بي لاستطلاعات الرأي التي أجرت هذا الاستطلاع "عندما يدرك الناس المغزى الحقيقي للانفصال يظهر تأييد جديد للمشروع الأوروبي."
ربما كان ذلك صحيحا غير أنه لا يعني أن الحكومات الأوروبية أو ناخبيها مستعدون بالضرورة للحفاظ حتى على المستوى الحالي من التكامل ناهيك عن تعميق الوحدة النقدية.
بل إن الاستطلاع قد يعكس ظهور وعي بالفردوس الأوروبي المفقود.
ومثلما غنت جوني ميتشل في إحدى أغنياتها "ألا يبدو دائما أنك لا تعرف ما لديك حتى تفقده؟"
(إعداد منير البويطي للنشرة العربية - تحرير محمد اليماني)