08 06 2016

الرياض تتبنى مفهوم المؤسسات الاقتصادية الرائدة كوسيلة تنموية

            

أثار إقرار مجلس الوزراء خطة التحول الوطني التي أحالها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وأشرف عليها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، نقاشا داخل مجموعة واسعة من الدوائر الاقتصادية والمصرفية الغربية وتحديدا البريطانية المعنية بتطورات الوضع الاقتصادي في السعودية.

وإذ انصب النقاش حول محورين أحدهما ارتبط بمدلول وتأثير وتداعيات إقرار مجلس الوزراء بالخطة على الاقتصاد السعودي فإن الشق الآخر ارتبط بما يمكن أن تحققه خطة التحول الوطني من آفاق واعدة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين العالم الخارجي والسعودية.

"الاقتصادية" استطلعت آراء نخبة من الخبراء والمختصين الغربيين بشأن تقييمهم لخطة التحول الوطني، بأبعادها المختلفة وتوقعاتهم بشأن تأثيراتها المستقبلية محليا وعالميا.

البروفيسور هارفي بنهام الاستشاري الاقتصادي العالمي، يعتقد أن خطة التحول الوطني تعد الترجمة الفعلية لرؤية 2030، التي بدت كإطار نظري عام للكيفية التي ترى فيها القيادة السعودية مستقبل المملكة اقتصاديا.

ولـ "الاقتصادية" يعلق قائلا "الملاحظة الأولى تعد إيجابية بشكل كبير وتتمثل في السرعة التي تمت بين طرح ولي ولي العهد السعودي للإطار النظري للعملية التنموية، وهو ما تمثل في رؤية 2030، وبين ترجمة تلك الرؤية في نسق متكامل من الأهداف المحددة بأرقام وآليات عمل مترابطة، إضافة إلى تحديد العلاقات النسبية بين الفاعلين الرئيسيين في عملية تطبيق تلك الرؤية، وأعني هنا القطاع الحكومي أو العام من جانب والقطاع الخاص من جانب آخر. ومن الواضح مما رشح حتى الآن من التفاصيل أن هناك رغبة في التدرج في عملية إدماج القطاعات الحكومية المختلفة داخل برنامج التحول الوطني، وهذا يكشف عن وعي اقتصادي دقيق بعدم تجانس درجة النمو في المؤسسات الحكومية المختلفة في الوقت الراهن، وصعوبة إدماج الجهات الحكومية كافة وبذات المعدل في عملية التحول، ويبدو أن الرياض تتبنى مفهوم المؤسسات الاقتصادية الرائدة كوسيلة تنموية، بحيث تكون لديها مجموعة من المؤسسات القوية القادرة على جذب المجتمع للأمام، بدلا من استنزاف مواردها على عدد واسع من الجبهات في آن". لكن الدكتور هنري دريك أستاذ المالية العامة ينظر إلى برنامج التحول الوطني باعتباره مسعى سعوديا لمزيد من الاندماج في الاقتصاد الدولي عبر عملية إصلاح شاملة تقوم على إصلاح مالي جذري سواء عبر إعادة التوازن إلى الميزانية العامة أو رفع كفاء الإنفاق والإنتاج في الوقت ذاته.

وعلق لـ "الاقتصادية" قائلا "لا شك أن الطفرة النفطية السابقة وما ارتبط بها من عوائد مالية عززت ثقافة سلبية بعدم الانضباط المالي لدى المؤسسات الحكومية في السعودية، وأسفر ذلك عن هدر مالي واسع النطاق لسنوات، لم يحد فقط من تعظيم المنافع المتحققة من الثروة المالية للسعودية، ولكن الأكثر خطورة أنه أوجد حالة من عدم الكفاءة في الإنفاق الحكومي، وهو ما يبدو حاليا أن خطة التحول تعمل على التخلص التام منه عبر تبني مجموعة من الأهداف المحددة وربطها بمبادرات تنفيذية، ومن ثم فإن عملية الإصلاح المالي تلك لن تنحصر نتائجها في الداخل بل ستسمح للاقتصاد السعودي بالتخلص من عديد من طبقات "الشحم" التي تعيق حركته السريعة، وتسمح له الآن بمزيد من الاندماج في الاقتصاد الدولي سواء عبر رفع معدلات التصدير للسلع غير النفطية، أو عبر تعزيز قدراته الاستثمارية الخارجية، أو خلق أرضية جراء الانضباط المالي للشركات الدولية للاستثمار في السعودية".

ويضيف "لهذا أتوقع أن تكون هناك متابعة دقيقة للغاية من كبريات المصارف العالمية وشركات الاستثمار الدولية وكبار الرأسماليين والمستثمرين لتطورات الوضع السعودي، وإذا نجح البرنامج بتحقيق ما يراوح بين 80 و 95 في المائة من أهدافه، فإن السعودية ستشهد طفرة استثمارية دولية، يمكن أن تصل إلى ما يراوح بين 70 و 75 مليار دولار خلال العقد العشريني من هذا القرن".

لكن تلك النظرة الإيجابية تجاه خطة التحول الوطني من قبل من الاقتصاديين البريطانيين ترتبط في نظر بعض الخبراء في مجال الاستثمار بضرورة أن ترافقها مجموعة من العوامل تسهم بدرجة أكبر في ضبط عملية التحول الاقتصادي التي تشهدها السعودية حاليا.

المختص في مجال الاستثمار في الاقتصادات الناشئة تشارلز باري، يشير إلى ضرورة أن ترتبط خطة التحول الوطني بالعمل على محورين متوازيين في الوقت ذاته، الأول يعمل على الجانب المادي الملموس من خلال زيادة الاستثمارات، والآخر يركز على تحسين البيئة الاستثمارية.

ولـ "الاقتصادية" يعلق قائلا "لا شك أن الخطة تتضمن طموحا ملحوظا في مجال تشجيع الاستثمارات الأجنبية عبر زيادتها بنسبة تتجاوز 100 في المائة خلال السنوات الأربع المقبلة، إضافة إلى توفير فرص استثمار بقيمة إجمالية تريليونين و300 مليار ريال، وتحقيق هذا يتطلب إحداث ثورة جذرية في البيئة التشريعية والتنظيمية والإجرائية للاستثمار في السعودية، كما سيتطلب درجة أعلى من الشفافية باعتبار أن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لهزيمة البيروقراطية العتيدة في الجهات الحكومية في السعودية التي أضاعت عديدا من الفرص الاستثمارية في المجتمع جراء تعقيداتها ورتابتها الإدارية وضعف الأداء".

ويضيف "أعتقد أن برنامج التحول الوطني تفهم طبيعة هذا التحدي، ومن ثم عمل على التغلب عليه عبر الوسائل التي أثبتت نجاعتها في البلدان المتقدمة، من خلال دعم أكبر للقطاع الخاص وتحفيزه على المساهمة بشكل أكبر في الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم سيسهم بذلك بدرجة واضحة في تلين المفاصل اليابسة للبيروقراطية السعودية".

بيد أن أكثر ما يثير الإعجاب لدى المختصين البريطانيين في برنامج التحول الحكومي تركيزه على فكرة التنوع الاقتصادي، ورفع مساهمة القطاعات غير النفطية في الاقتصاد السعودي. وعلى الرغم من إقرار المختصين المصرفيين في بريطانيا أن تلك العملية ستكون شديدة الصعوبة ومليئة بالتحديات، إلا أنهم يعتقدون أنه لم يعد أمام السعودية من خيار آخر غير تبني فكرة التنوع الاقتصادي، ليس فقط للتراجع الراهن في أسعار النفط، وإنما أيضا لأن ذلك هو المدخل الحقيقي للسعودية إذا أرادات أن تبرز كلاعب اقتصادي عالمي متنوع القدرات.

ويعلق لـ "الاقتصادية" المختص المصرفي وليم راندال قائلا "عملية التحول ليس فقط في السعودية وإنما في أي اقتصاد عالمي عملية شاقة، وغالبا ما تبرز فيها اعتراضات من قبل التيارات التي اعتادت على الأنماط الاقتصادية السابقة والتقليدية، وربما لإدراك القيادة السعودية هذا، فإننا نلاحظ أن برنامج التحول الاقتصادي تزامن مع تأكيدات بعدم الزيادة في ضرائب الدخل، وهذا سيسهم بشكل كبير في عملية تحول اقتصادي سلسة بشكل ملحوظ".

وحول مدلول خفض قيمة الرواتب والأجور في الميزانية العامة من 45 في المائة حاليا إلى 40 في المائة بحلول عام 2020. فان المختص المصرفي وليم راندال يشير إلى أن ذلك سيجعل الميزانية العامة أكثر توازنا كما سيعطي مؤشرا على اتجاه السعودية نحو رفع الكفاءة الإنتاجية للموارد البشرية لديها، سواء عبر مزيد من التطوير في وسائل الإنتاج في القطاعات الحكومية، أو تقليص الفجوة الراهنة التي أثرت كثيرا في الميزانية السعودية خلال العقد الماضي جراء التباين الملحوظ بين النفقات الرأسمالية المعتمدة والفعلية، وتعد فجوة سوداء في الميزانية امتصت إلى حد كبير القدرات المالية للسعودية، كما يتضح وجود رغبة في منح مساحة أوسع للقطاع الخاص السعودي في المرحلة المقبلة، وبذلك فإن خطة التحول الوطني ألقت بالكرة في ملعب الرأسمالية السعودية وتركت الأمر لها لإظهار مدى تجاوبها مع البرنامج الجديد".

إلا أن البروفيسور سيمون كيربي أستاذ الاقتصاد المقارن، يعتقد أنه سيكون من العجلة الشديدة الحكم على برنامج التحول الوطني بما سيحققه من نتائج عام 2020، وحول الأسباب التي تدعوه إلى تبني هذا الرأي يعلق لـ "الاقتصادية" قائلا " إن فلسفة البرنامج مشابهة في جوهرها لكل البرامج المماثلة لإحداث تحولات جذرية في المجتمع، هذا ما جرى في ألمانيا بعد إعادة توحيدها والبرازيل وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية وحتى ماليزيا وإلى حد ما تركيا، ففكرة البرنامج هي إحداث هزة في البنية الاقتصادية للمجتمع لنفض سنوات من الغبار الناجم عن حالة الارتخاء الاقتصادي وعدم تفعيل القدرات المتنوعة للاقتصاد السعودي، جراء الاعتماد على النفط فقط، ولذلك يلاحظ أن ولي ولي العهد السعودي وضع على قمة برنامج التحول الوطني إصلاح النظام التعليمي، باستهداف إيجاد 450 ألف فرصة عمل خارج القطاع الحكومي، وتقليص معدل البطالة من 11.65 في المائة إلى 9 في المائة، ومن ثم فإن هناك إدراكا واضحا أن مخرجات النظام التعليمي ستلعب الدور الأساسي لضمان نجاح هذا البرنامج، وبهذا فالرياض تواجه عملية تحول طويلة الأمد باعتبار أن مخرجات العملية التعليمية تتطلب سنوات من التطوير المتواصل، ولهذا فإن خطط وأهداف برنامج التحول الوطني يجب أخذها في إطار المنظومة الأشمل لرؤية 2030 الرامية في جوهرها إلى وضع السعودية في تصنيف متقدم ضمن الاقتصادات الدولية، ولكن خارج المشهد التقليدي للاقتصاد النفطي، وهذا هو جوهر التحدي الذي يواجهه ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان".

© الاقتصادية 2016