29 November 2016
يقوم اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي على الموارد الهيدروكربونية ويُعدُّ سكانها من الأكثر رخاء في العالم. وتشترك هذه البلدان في العديد من الخصائص، حيث كانت دولا فقيرة في الخمسينات، غير أنها سرعان ما تطورت بفضل استغلال الموارد الطبيعية ومن منظور الاقتصاد الكلي الأوسع، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي معدلات متقاربة مع مرور الزمن في المنطقة.
ومع ذلك، فإن النجاح الاقتصادي الكبير لدول مجلس التعاون لم يتحقق فقط بمشاركة القوى العاملة المحلية. بل على العكس تعتبر دول المجلس من أكثر المناطق تنوعا من ناحية السكان في العالم. حيث أن بلدان مجلس التعاون الخليجي تأتي في المراتب العشر الأولى من حيث أعلى نسب السكان من ذوي الأصول الأجنبية.
ومن الخصائص المثيرة للانتباه لسوق العمل في بلدان مجلس التعاون هو أنه يتكون من أغلبية من الذكور. وهذا راجع للطلب الكبير على العمالة الأجنبية في قطاع البناء حيث تكون الرواتب أقل من الحد الأدنى القانوني المطلوب لكفالة أفراد العائلة. وتبين الدراسات أن 4 عدد الذكور لكل 100 امرأة. وكما هو متوقع، فإن النسب متساوية بين الجنسين، أي 50-50، بالنسبة للسكان المحليين، في حين يوجد اختلال كبير لهذه النسب في صفوف الجاليات الأجنبية. حيث تسجل أعلى نسب الذكور للإناث في عمان وقطر والإمارات وأدناها في الكويت، لكن تظل النسبة العامة لمنطقة مجلس التعاون في حدود 326 رجلا مقابل 100 امرأة.
مستقبل سوق العمل في منطقة مجلس التعاون الخليجي
تميل اقتصادات دول مجلس التعاون إلى التشابه أكثر من الاختلاف من النواحي الجغرافية والثقافية (النشاط الاقتصادي قبل اكتشاف النفط)، والموارد الاقتصادية وأسواق العمل وأنماط التجارة الدولية، إلخ. وبالنظر لمؤشرات الوضع الحالي (والأداء الماضي أيضا)، فإن المستقبل لن يختلف كثيرا. ومن ثم، من المنطقي أن يتم تنسيق السياسات عبر الحدود الوطنية، وهو الأمر الذي شكل موضوع نقاش على مدى عدة سنوات مع الاتحاد النقدي المنتظر لدول مجلس التعاون الخليجي.
وفيما يتعلق بسوق العمل، يمكننا تلخيص خصائص أسواق العمل في دول مجلس التعاون الخليجي كما يلي:
· السكان المحليون لا يشاركون في سوق العمل بقدر مشاركة العمالة الأجنبية، لكن البطالة في صفوف الإناث والشباب في ارتفاع.
· سوق العمل مجزّأة حيث يفضل الأجانب القطاع الخاص ويتجه المواطنون للقطاع العام.
· الاعتماد الواسع لنظام الكفالة يحد من حرية حركة العمالة.
· رغم أن العمال الأجانب يفترض أن يغادروا بعد مرور فترة محددة مسبقا إلا أنهم يميلون للبقاء أكثر من ذلك.
يمكننا الإضافة أن القوة العاملة متكونة في معظمها من الآسيويين، وخاصة من العمالة غير الماهرة. وإذا افترضنا بأن المهاجرين يبدون استعدادا أكبر لاختيار بلدان يجدون فيها مواطني بلدانهم، فإنه من المتوقع أن يرتفع عدد المهاجرين الآسيويين في المنطقة مستقبلا إذا لم تتعثّر اقتصاداتها. وفضلا عن ذلك، ونظرا لكون القطاعات الكبرى غير النفطية في دول الخليج تتمحور حول البناء والتشييد، سوف تؤدي مشاريع البنية التحتية الكبرى تحضيرا للفعاليات المرتقبة لكأس العالم بقطر وللنهضة الإنشائية بكل من دبي والمملكة العربية السعودية (كأمثلة) إلى ارتفاع الطلب على العمالة الأجنبية. علاوة على ذلك، هذا يعني أن عدد العمال الأجانب من الذكور سوف يستمر في النموّ. وبالتالي، لذا نرى بأن أية سياسة مستقبلية فيما يتعلق بسوق العمل يجب أن تشمل الوافدين، وخصوصا الذكور منهم. فسياسات "التوطين" المتبعة حاليا والهادفة لاستبدال القوى العاملة الأجنبية بالمواطنين يمكن أن تكون مكلفة للاقتصاد وأن تحد من قدرته التنافسية. ورغم أن الجهود الحكومية لإيجاد / فتح فرص عمل للمواطنين متوقعة ومنطقية من الناحية الاقتصادية، لا يجب أن تركز على "استبدال" العمال الأجانب، ولكن "جنبا إلى جنب" معهم. التكامل بين الطرفين بدلا عن الاستبدال توجه ينطوي على احتمالات أكبر للنجاح على المدى الطويل. إذ لا يجب أن ننسى بأن أسواق عوامل الإنتاج، مثلها مثل أسواق السلع، تحكمها شروط العرض والطلب التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند وضع السياسات.
وفي سياق متصل، لا ينبغي إغفال الدور الذي تلعبه التحويلات المالية بالنسبة لدول مجلس التعاون (البلدان المستضيفة للعمالة) والبلدان المصدّرة للقوى العاملة. حيث أن التحويلات المالية لها تأثير هام في مكافحة التضخّم في دول مجلس التعاون، ووسيلة لتحسين وضع العمالة في بلدانها الأصلية.
بالرجوع إلى مستوى مهارة القوى العاملة، فإن السياسات الرامية للرفع من المستوى التعليمي للمواطنين وكذلك الوافدين قصد مواكبة حاجيات سوق العمل، من شأنها أن تخدم الأطراف المتدخلة في السوق والاقتصاد ككل بشكل أفضل. ومن القضايا المتصلة بهذا الشأن، قضية التشتت الشديد لسوق العمل كما أشرنا سابقا. بعبارة أوضح، يتمتع السكان المحليون بوظائف شبه مضمونة في القطاع العام مع مزايا سخية تشمل منح التقاعد المريحة، مع أن فئة منهم تظل تعاني من قلة فرص العمل. من ناحية أخرى، تتدفق العمالة الوافدة على القطاع الخاص، عموما بأجور زهيدة. ونظرا لانخفاض مستوى الإنتاجية في المنطقة، من المنطقي أن نعتبر أن تشتت السوق يلعب دورا هامًا في هذا السياق، ذلك أن مستوى الإنتاجية والابتكار منخفض عموما في القطاع العام بسبب نقص الحوافز، وهو كذلك في القطاع الخاص بسبب عدم الإنصاف في المكافأة.
في الأخير، تبقى مسألة البيانات قائمة، فمن البديهي أنه في غياب بيانات ثابتة وكاملة، لا يمكن وضع السياسات بشكل سليم ومن الصعب تحقيق الغايات المنشودة. تعاني المنطقة من هذه المشكلة ولا بدّ من حلّها أوّلا قبل المرور إلى مناقشة أية شؤون أخرى.
و في إطار تعزيز النقاش الموجه نحو صنع السياسات الملائمة لاحتياجات المنطقة، نعتقد أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي عليها أن تسعى لتطوير سياسات العمل التكاملية الشاملة مع التركيز على مسألة عدم التوازن في مستويات الدخل كما أشارت الدراسات. ورغم أن عدم المساواة في الدخل قد لا يمثل مشكلة بالنسبة لصناع القرار في المنطقة، إلا أنه يجب عدم إهمال هذا الجانب لتفادي الأزمات في المستقبل على غرار ما حصل في بعض البلدان الأوروبية وخاصة الأزمة اليونانية الأخيرة. يدعو هذا التوجه البحثي إلى حرية حركة القوة العاملة بأقل ما يمكن من العراقيل. قد تكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي إزاحة نظام الكفالة المحلية (الكفيل) للسماح بحرية انتقال العمالة الأجنبية داخل القطر الواحد. وبعدها، كخطوة طبيعية ثانية، يمكن أن تسمح كافة دول مجلس التعاون الخليجي للعامل الأجنبي (الوافد) بالعمل في أي دولة من دول التكتل وذلك من أجل تحقيق الفائدة القصوى من الخبرات والقوى العاملة المستوردة. إن حركية العمال الأجانب يمكن أن تغطي النقص في بعض المهارات في البلد بدون اللجوء إلى استقدام المزيد من العمال.
بطبيعة الحال، هذا يعني أن هناك حاجة إلى قدر أكبر بكثير من التعاون والتنسيق داخل كتلة مجلس التعاون الخليجي، من قبيل توحيد مقاييس التوظيف – بمعنى أن على كافة دول المجلس أن تعتمد نفس أساليب التوظيف وكذلك نفس القوانين الخاصة بمدة إقامة الوافدين وحرية حركتهم، بالإضافة إلى قوانين الكفالة. يمكن إنجاز هذا بواسطة لجنة معينة لتنسيق السياسات وتقديم التوصيات السياسية، تعمل داخل الإطار الأوسع لهيئات صنع القرار الخليجية. مثال على ذلك هي دول اتفاقية شنغن (Shengen) التي تسمح للمواطنين الأجانب بالدخول إلى المنطقة من أي دولة من الدول الأعضاء. وفي الحالة التي ندرسها هنا، يجب العمل على إقامة نظام مماثل، وربما أكثر تعقيدا، لتنسيق سوق العمل في المنطقة.
وأخيرا وفيما يتعلق بقضايا جمع البيانات، يمكننا القول بأنه من الضروري للغاية الاتّفاق على تعريف موحد لعملية جمع البيانات. على سبيل المثال، حتى إذا كانت البيانات متوفرة على المواقع الالكترونية الحكومية التي تكون بدورها متناثرة عبر الوكالات الحكومية المختلفة، فإن الجمع لا يكون متزامنا، وغالبا ما تكون تعريفات المتغيرات مختلفة من بلد إلى آخر مما يجعل الدراسات المقارنة بين الدول صعبة الإنجاز. ويمكن أن تقوم لجنة من الأكاديميين وصانعي السياسات بتحديد هذه المفاهيم (وغيرها) التي يجب الالتزام بها داخل الكتلة ككل، ومن ثمّ يتم اعتمادها من قبل معاهد الإحصاء في المنطقة. وليست هذه المهمة مضنية أبدا، حيث أن معظم المصطلحات أو كلها قائمة ومتفق عليها دوليا وقامت بضبطها مؤسسات دولية. وعلاوة على ذلك، فإن التمكن من جمع البيانات بشكل متجانس والتشارك في قواعد البيانات عبر المنطقة سوف يسمح بتعقب حركة العمال وتجهيز سياسات تخص قضايا العمل (مع إمكانية قياس تأثيراتها).
وللحديث بقية ،،،،،
© Opinion 2016