كنا في جزء سابق قد تناولنا مقدمة عن مفهوم الدين العام، الداخلي والخارجي والفارق بينهما. وكذلك تناولنا بعض من مخاطر كل منهما. وبما أننا تحدثنا عن المخاطر، فمن المنطقي أن نتحدث عن مساحات الخطر والأمان فيما يتعلق بالدين العام.
لقراءة الجزء الأول:
الديون ومتاهاتها... ماذا تعرف عنها..؟
ولكن .. إذا كنت تتوقع أن تجد أرقام بعينها وحدود واضحة للاقتراض الآمن، فغالباً لن تجد ما تبحث عنه. فالأمر ليس بهذه البساطة. ففي الاقتصاد، النسبية هي اسم اللعبة، والمعدلات والتغيرات هي قوانينها.. فقد تكون دولة مستدينة بعشرين مليار دولار في وضع أكثر خطراً من أخرى مستدينة بمائة من المليارات. ولفك هذا التشابك، نشرح هنا بعض مقاييس تحليل الدين العام وما إذا كان قد عبر الخطوط الحمراء أم ليس بعد، أو بمعنى أدق، ما إذا كان الدين العام لا زال في حدود الاستدامة، أم تخطاها.
ما هي استدامة الدين العام؟
الاستدامة sustainability هي مفهوم هام يخص السياسات المالية للدولة بشكل عام، وإدارة الديون بشكل خاص، باختصار، استدامة الدين العام تعني قدرة الدولة المدينة على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالدين، الحالية والمستقبلية، دون الاحتياج لمساعدات مالية استثنائية. وعند الحديث عن استدامة الدين العام، لابد من أخذ بعض العوامل في الاعتبار:
- كما قلنا في الجزء السابق، فإن قياس الدين العام يتم على عدد من المستويات تختلف في شمولها. ولتقييم الاستدامة المالية للدين بشكل سليم، لابد من عدم التركيز في تتبع الدين العام على مقياس ضيق في شموله، وإلا أدى ذلك إلى زيادات مطردة وغير متوقعة في مستوى الدين.
- كذلك، تختلف الاهتمامات في قياس استدامة الدين. فبينما المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يهتمان باستدامة الدين الداخلي والخارجي، تهتم مؤسسات التصنيف الائتماني بالدين الخارجي أكثر من غيره.
- عند تحليل قدرة دولة ما على تحمل ديونها، عادة ما يتم تقييمها بالمقارنة بحالات تعثر في الدين العام لدول شبيهة في الظروف الاقتصادية. وجود مثل تلك المرجعية ضروري لتقديرات كمية تقريبية لمؤشرات الديون لتلك الدولة، وهو الأمر الذي يختلف بالطبع من دولة لأخرى ومن مستوى لآخر من مستويات الدخل ومدى كفاءة المؤسسات المالية للدول.
ما هي أهم المؤشرات المتعلقة بالدين العام؟
- نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي Debt/ GDP ratio: وهو المؤش الأكثر شيوعاً في استخدامه. فكلما ارتفعت تلك النسبة أشارت إلى عبء أعلى للدين وخدمته .
- نسبة الدين إلى الصادرات Debt/ Export ratio: وهو مؤشر أكثر نفعاً خاصة عند التعامل مع حجم الين الخارجي، لأنه يتفادى التذبذبات والتغيرات التي تحدث في قياس الدين الخارجي وإجمالي الناتج المحلي عند حدوث تغيير كبير في سعر الصرف، لأن كلاهما مقوم بالدولار.
فعلى سبيل المثال، كان الدين الخارجي لمصر قبل التعويم يدور تقريباً حوال 16% إلى 17% من الناتج المحلي الإجمالي، عندما كان سعر الصرف الرسمي 8.8 جنيه للدولار. بينما بعد التعويم، قفز سعر الدولار إلى حوالي 18 جنيه للدولار، مؤدياً إلى انكماش القيمة الدولارية لقيمة الناتج المحلي الإجمالي، قفزت نسبة الدين الخارجي إلى حوالي 36% من الناتج المحلي، رغم ثبوت قيمة الدين الدولارية آنذاك. والسبب في ذلك هو إعادة تقييم الناتج المحلي الإجمالي بالسعر الجديد للدولار، الأمر الذي أظهر النسبة بشكل أكبر رغم عدم تغير رصيد الدين حينها.
- نسبة الدين الخارجي قصير الأجل إلى الاحتياطي الأجنبي: وهو مؤشر هام جداً لمدى كفاية الاحتياطي النقدي الأجنبي لتغطية متطلبات السيولة في المدى القريب. والدين الخارجي قصير الأجل هو الدين المستحق سداده خلال عام.
- متوسط آجال الدين Average Maturity: يعبر عن متوسط المدة التي تستحق فيها الأعباء الأكبر من الديون. فكلما قصرت فترة متوسط آجال الديون، عبر ذلك عن احتمالية حدوث متاعب في السداد، أو احتياج مفاجيء ومتراكم لإعادة تمويل الديون والاحتياجات المالية.
دعنا من المؤشرات... هناك ما هو أكثر أهمية..
هل الأمر إذن يتعلق بتلك المؤشرات فحسب؟ بالطبع لا. فملف الديون أكثر تشعباً من ذلك وبكثير. ولكي نختصر، نشير هنا إلى ما يسمى بديناميكيات الديون Debt Dynamics.
ولا تدع التسمية المعقدة تخدعك. فالأمر ببساطة يعني أي اتجاه تسلكه المالية العامة؟ ... هل هي في وضع مالي واقتصادي يجعلها في احتياج مستمر للاقتراض بشكل أكبر؟ أم هي في طريقها لتقليص حجم الدين مع مرور الوقت...؟
فببساطة، لتتمكن الدولة من وضع ديونها على مسار الانخفاض، لابد من تحقيق توازنات معينة بين معدل النمو الاقتصادي، تحقيق فائض أولي في الموازنة (الفرق بين الإيرادات والنفقات من دون احتساب الفوائد) وأن يكون معدل النمو أعلى من متوسط معدل الفائدة المستحق على رصيد الديون.
فالأمر يبدأ وينتهي عند النمو الاقتصادي وهيكل الموازنة.. فلابد هنا أن نتساءل: هل إنفاق الديون يتم في اتجاهات تساعد النمو الاقتصادي على الارتفاع؟ هل النمو الاقتصادي يتسع بشكل كافي لقطاع خاص أقوى وأكثر انتاجية وبالتالي أكثر قدرة على دفع ضرائب مستدامة تغني الموازنة عن المزيد من الاقتراض مستقبلاً؟ هل التكلفة التي تتحملها الدولة في ملف الديون هي أقل تكلفة ممكنة؟ هل متوسط آجال استحقاقات الديون يتم إدارتها بشكل مناسب؟ أم الأمر يحتمل الانزلاق إلى مصيدة الديون؟ تلك المصيدة التي سنعرف عنها في أجزاء لاحقة.
لقراة مقالات سابقة لإسراء:
الاقتصاد المصري: بين نظرة الرضا....والحذر
أداء متباين للقطاع الخاص في السعودية والإمارات، المخاوف واحدة..
(إعداد: إسراء أحمد، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)
(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)
تغطي زاوية عربي أخبار وتحليلات اقتصادية عن الشرق الأوسط والخليج العربي وتستخدم لغة عربية بسيطة.
© Opinion 2020
المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.