PHOTO
إحدى عجائب الأزمة المالية والنقدية والمصرفية التي عصفت بلبنان هي تعدد أسعار الصرف.
فمنذ العام 1997 تمتع لبنان بسعر صرف ثابت ربط بالدولار الأمريكي على سعر وسطي بلغ 1507.5 ليرة مقابل الدولار. اعتبرت حكومات الرئيس رفيق الحريري المتعاقبة تثبيت سعر الصرف هدف استراتيجي للاستقرار النقدي والأمن الاجتماعي ووسيلة أساسية لجذب الاستثمارات العربية من غير تعريض أصحابها لمخاطر التقلب في الأسعار.
قام البنك المركزي بإدارة تثبيت السعر بنجاح حتى أواخر العام 2019 بالرغم من التكلفة الباهظة لهذا الاستقرار. كانت آلية العمليات تتم في البنك المركزي عبر استخدام الاحتياطات الأجنبية للمصرف. ففي كل مرة كانت تتعرض قيمة الليرة للانخفاض، كان المركزي يقوم بشراء الليرة وضخ الدولار النقدي في الأسواق من احتياطاته الأجنبية لإعادة التوازن إلى السوق.
في أواخر العام 2019 ومع بداية الأزمة، لم يعد البنك المركزي قادر على التدخل نتيجة استنزاف احتياطاته الأجنبية والشح الكبير للدولار النقدي في الأسواق والمصارف مقارنة بالطلب الكبير على الدولار بعد أن تهافت اللبنانيون على سحب ودائعهم.
ومع عجز المصارف عن تلبية الطلب، بدأت تتشكل السوق الموازية أو ما يُعرف في بيروت بالـ "السوق السودا" والتي عكست توازن العرض والطلب بعيدا عن سعر الصرف الرسمي الـ 1507 الذي تمسك به البنك المركزي في تعاملاته مع المصارف والمعاملات الرسمية مع الدولة اللبنانية.
في لبنان اليوم، سلة من أسعار الصرف فهناك سعر الصرف الرسمي 1507، وسعر آخر على منصة "صيرفة" التي أطلقها مصرف لبنان ويُتداول يوميا بين 30- 29 ألف ليرة، وسعر صرف دولار "السوق السودا" الذي وصل إلى عتبة الـ 39 ألف ليرة، والسعر الخاص بالسحوبات المصرفية لودائع مقومة بالدولار عند 8 آلاف ليرة.
وأخيرا، الدولار الجمركي والذي أقر في موازنة 2022 (بعد تأخير 9 أشهر) بـ 15 ألف ليرة.
في مقابلة، أطلع وزير المال اللبناني يوسف خليل وكالة رويترز عن التوجه إلى اعتماد الـ 15 ألف ليرة كسعر الصرف الرسمي الجديد بدلا عن الـ 1507.
أثار الإعلان الكثير من التساؤلات والبلبلة في الأوساط اللبنانية نتيجة الغموض واللبس حول آلية تطبيقه ونتائجه المحتملة على الأوضاع الاقتصادية والمالية والمصرفية في البلاد.
تصحيح لا بد منه
شكل الإعلان صدمة للبنانيين نتيجة الطريقة التي تم بها بشكل مفاجئ، من غير تحضير ومناقشة.
سارع الوزير ووزارة المال للتراجع عن القرار وربطه بإقرار خطة التعافي الاقتصادية.
أثار هذا الأمر لغط كبير حول آلية تنفيذه والقطاعات التي يشملها القرار.
قالت الوزارة في بيان صادر عنها لتوضيح كلام الوزير إن وقف العمل بسعر الـ 1507 بات أمر تصحيحي لا بد منه "لتصحيح تداعيات التدهور الحاد في سعر الصرف وتعدّديته على المالية العامة، وذلك تقليصاً للعجز وتأميناً للاستقرار المالي."
ثم عادت الوزارة لتوضح أن التوجه لاعتماد سعر الصرف الـ 15000 ابتداء من 1 نوفمبر، تم الاتفاق عليه بين وزارة المالية والمصرف المركزي، شرط ان يتم تطبيقه على خطوتين. الأولى على صعيد الدولار الجمركي، والثانية على صعيد سعر الصرف الرسمي بعد إقرار خطة التعافي الاقتصادي.
ولكن الوزارة أغفلت مناقشة تداعيات هكذا إعلان وتوضيحه للمواطنين الأمر الذي انعكس على إدارة الازمة اللبنانية التوجهات المتضاربة والخلافات داخل مكونات السلطة من السياسة والنقدية، إلى المالية والمصرفية.
الهدف الحقيقي
تعتبر الحكومة أن الهدف الأساسي من تعديل سعر الصرف الرسمي هو توحيد أسعار الصرف استجابة للطلب الملح من صندوق النقد الدولي الذي ربط أي حزمة مساعدات للبنان بإصلاحات هيكلية للاقتصاد.
وبالتالي يمكن اعتبار التحول نحو الـ 15000 خطوة أولى تمهد لتوحيد أسعار الصرف، يتبعها احتمال تعويم سعر الصرف على معدل نهائي سيكون قريب جدا إما من سعر "صيرفة"(حوالي 30 ألف) أو سعر السوق الموازية (حوالي 38 ألف).
يبدو هنا أن الحكومة لم تلجأ إلى توحيد أسعار الصرف دفعة واحدة للتخفيف ـ على مراحل ـ من الآثار التضخمية للقرار من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. وأخيرا، سؤال يجوز طرحه هو ما الآلية التي استند عليها سعر الصرف الجديد ومدى جدواه الاقتصادية.
أما الهدف الحقيقي من تعديل سعر الصرف فيتجلى من خلال قراءة الموازنة التي أقرتها الحكومة وأستعرض سريعا بعض الأرقام.
تبحث الدولة عن موارد إضافية نتيجة إقرارها زيادة كبيرة في المصروفات. وظهر العجز بين قيمة النفقات التي حددتها الموازنة بحوالي 41 تريليون ليرة (أي حوالي 1.1 مليار دولار وفق سعر الصرف بالسوق الموازي)، في حين بلغت قيمة الإيرادات قرابة 30 تريليون ليرة (حوالي 790 مليون دولار). وكانت الحكومة قد أقرت في الموازنة زيادة في رواتب القطاع العام بلغت ثلاث أضعاف الرواتب الحالية.
القرار مالي
يتبين أن القرار إذا هو مالي ويتعلق بواردات الدولة والضرائب والرسوم المتوجبة بالعملة الاجنبية. وبالتالي فإن القرار يشمل كل الرسوم والضرائب التي يتم تقويمها بالدولار، مثل الدولار الجمركي والدولار العقاري ودولار الضريبة على القيمة المضافة.
وستحصل الدولة مثلا من قيمة ضريبة بالغة 10 دولار على 150 ألف ليرة بدلا من الـ 15 ألف إذا احتسبت على سعر الصرف القديم.
يؤكد ذلك أن الهدف الأساسي للحكومة من القرار هو البحث عن آلية لزيادة المداخيل، وخاصة أن القرار لا يشمل النفقات، أي أن رواتب القطاع العام لن يتم احتسابها على سعر الصرف الجديد.
وبذلك تكون الحكومة قد أعطت القطاع العام ثلاث اضعاف بيد، وأخذت عشرة اضعاف باليد الأخرى مما سيؤدي حتما إلى تقلص القدرة الشرائية للمواطنين، وخاصة مع الفوضى المستشرية في الأسعار والتهريب والاحتكار وغياب الأجهزة الرقابية.
ثم إذا ما فرضنا أن الحكومة ستتمكن من تحصيل الواردات وبالأرقام التي تتوقعها في الموازنة، فإن مشروعها لكيفية تمويل العجز لا يزال غامض. نتيجة غياب قدرة الدولة على الاستدانة من الخارج بعد تعثرها عن دفع مستحقات في عام 2020، فإن الحل الوحيد الممكن هو أن تلجأ إلى طبع الليرة لتغطية العجز مع ما يرافق ذلك من المزيد من الانهيار في سعر الصرف، وارتفاع التضخم الذي تفرضه زيادة الكتلة النقدية.
وبما أن القرار مالي وصادر عن وزارة المال، فلن يشمل المصارف التي تخضع للسلطات النقدية -أي مصرف لبنان. وهو ما أكده بالفعل رئيس الحكومة في تصريحاته الأخيرة حول إبقاء سعر الصرف المصرفي على 1500.
وبذلك تكون الحكومة قد أعطت البنك المركزي الاستنسابية في تطبيق القرار وإيجاد حل للقروض المصرفية المقومة بالدولار وميزانيات المصارف التي حتما ستعارض هكذا تعديل، قبل إقرار خطة التعافي الاقتصادي وقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي والمالي، حيث أنه من الممكن ان يؤدي إلى القضاء على ملاءة المصارف الدفترية وغير الحقيقية عبر تقييم رأسمالها بالسعر الجديد ما يعرضها لإشهار الإفلاس.
وبحسب بيانات البنك المركزي اللبناني، فإن رأس مال المصارف اللبنانية بلغ في يوليو 2022 حوالي 25.52 تريليون ليرة، أي ما يعادل 17.01مليار دولار إذا ما احتسبت على سعر الصرف 1500.
أما إذا ما اعتمد مصرف لبنان سعر الصرف الجديد 15000 فإن قيمة رأس مال المصارف ستنخفض إلى 1.7 مليار دولار، ونحو 670 مليون دولار فقط إذا ما اعتمد سعر الصرف الحقيقي أي حوالى 38 ألف ليرة مقابل الدولار، ما يعنى أن المصارف باتت حكما في حالة إفلاس دفترية وحقيقية.
كذلك يعنى التمييز بين الدولار النقدي أي دولار المصارف (1500) والدولار المالي التابع لوزارة المالية (أي 15 ألف) أن المقترضين من المصارف بالدولار الأميركي سيتمكنون من إعادة قروضهم بالليرة على سعر الصرف 1500.
وسيستفيد بعض صغار المقترضين من هذا التمييز، إلا أن الفائدة الأكبر في هذا الموضوع ستعود حتما على كبار المقترضين بملايين الدولارات. أما القروض المقومة أساسا بالليرة اللبنانية-كقروض الإسكان على سبيل المثال- فإنها لن تتأثر بهذا الإجراء.
كذلك على مصرف لبنان إعادة النظر بسعر الصرف الذي يسمح فيه للمودعين بسحب أموالهم من المصارف والذي يبلغ حاليا 8000 ليرة مقابل الدولار الواحد أي ما يعادل 21% من قيمته السوقية. اذ من غير المنطقي أن يتمكن المودعون من سحب أموالهم على سعر صرف تبلغ قيمته تقريبا نصف ما عليهم تسديده للدولة.
وعليه فإن الاستمرار في سعر الصرف الحالي للسحوبات يشكل ضريبة مخفية او هيركات “Haircut”(خصم) آخر على قيمة الودائع بالدولار. وحتى لو اعتزم مصرف لبنان تعديل سعر الصرف إلى 15000 فإن ذلك لن يصب إلا في خانة التضخم وزيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية التي سيلجأ البنك المركزي لطبعها من اجل تغطية الفرق بين الـ 8000 الحالية والـ 15000 المقترحة.
أي في جميع الأحوال أن المواطن هو من سيدفع الثمن.
(إعداد: محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)
(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)