خلال الفترة الحالية بظروفها المعقدة، ليس من السهل أن تجد إجماع أو اتفاق واسع النطاق بين التقارير التي تصدرها المؤسسات العالمية المختلفة حول أمر بعينه يخص مستقبل الاقتصاد العالمي. ولذلك، حين تجد أن هناك انطباع متكرر ومتفق عليه بين عدة مؤسسات دولية واقتصاديين بارزين كذلك، خاصةً خلال هذه الفترة التي تتسم بعدم اليقين على جميع الأصعدة تقريباً، فهو أمر يستحق التأمل.
فمنذ فترة، نرى إجماع بين التحليلات الاقتصادية التي تصدر عن مؤسسات كبيرة أن التعافي الاقتصادي في عالم ما بعد كورونا لن يكون متجانس أو على وتيرة واحدة بين العالمين المتقدم والنامي.
فجوة
فعلى سبيل المثال، يرى صندوق النقد الدولي أن مسارات التعافي المتوقعة بعد الجائحة على الأرجح سوف تتسبب في اتساع فجوة مستويات المعيشة بين دول العالم المتقدم والأسواق الناشئة. بل يضيف الصندوق كذلك أنه، وعلى الرغم من أن الخسائر الاقتصادية العالمية على المدى المتوسط قد تكون أقل من تلك التي حدثت خلال الأزمة المالية العالمية، إلا أن الدول النامية قد تكون الخاسر الأكبر في المعركة الاقتصادية مع كورونا وبعد كورونا على عكس الوضع في أزمة 2008 التي تكبد فيها العالم المتقدم الفاتورة الأكثر ارتفاعاً.
وفي رأيي، أرى أن أحد أهم المخاطر المحيطة بالأسواق الناشئة على المدى المتوسط هو التباين الشديد عن الدول المتقدمة في سرعة التعافي والجاهزية لعودة النشاط الاقتصادي لطبيعته، ذلك التباين الذي قد يضع عل خريطة العالم دول تتعافي بشكل قوي نسبياً بنمو اقتصادي مرتفع وتضخم متسارع ورفع في أسعار الفائدة من ناحية، ومن ناحية ثانية دول أخرى لا زالت في حيرة بين فرض إجراءات احترازية لضرورة صحية وبين ضرورة اقتصادية لاستمرار النشاط، ولا زالت تعاني في براثن كورونا وآثارها على القطاعات المختلفة.
المشكلة الأولى هنا، هي الاختلاف في سرعة انتشار اللقاح. فمع البطء الشديد في انتشار اللقاح في الدول النامية مقارنة بالعالم المتقدم، تظل تلك الدول عرضة للتأثير السلبي للجائحة اجتماعياً واقتصادياً لفترة أطول.
تعافي صعب
ويكفي هنا أن نذكر السياحة كمثال. فإن لم يتم محاصرة حالات الإصابة بأسرع وسيلة ممكنة، ستقع الدول النامية فريسة لنظرة سلبية تجاهها من باقي دول العالم التي سيفكر مواطنوها مرتين قبل زيارتها لقضاء عطلتهم، ولن يكون ما فعلته بريطانيا عندما أضافت سبع دول – منها مصر والسودان والبحرين – إلى قائمة السفر الحمراء هو التصرف الوحيد من هذا النوع من دول العالم المتقدم إذا ما استمرت النظرة السلبية تجاه الدول ذات الخطوات البطيئة في محاصرة الجائحة باللقاح اللازم.
والأمر قطعاً لا يقتصر على السياحة.
فالأسواق الناشئة بطبيعتها الاقتصادية تعاني نقاط هشاشة في موازين مدفوعاتها ومالياتها العامة بشكل لا يحتمل كثيراً أن تتسع فجوة التعافي بينها وبين باقي العالم. فارتفاع التضخم عالمياً يفرض خيار التشديد على السياسة النقدية العالمية، وهو أمر له توابعه القاسية على الأسواق الناشئة خاصةً في مثل هذا التوقيت، ويكفي أن نقول انه منذ بداية 2021، قامت 104 من البنوك المركزية حول العالم باتخاذ 31 قرار بتشديد السياسة النقدية، في مقابل 22 قرار فقط بالتيسير.
وهنا، تأتي مشكلة معقدة نسبياً، وهي أن البيئة النقدية المشددة عالمياً تعني بالضرورة ارتفاع تكلفة التمويل للدول النامية، حيث ترتفع تكلفة اقتراضها من الأسواق الدولية مع ارتفاع العائد على البدائل الأقل مخاطرة في الدول المتقدمة، مما قد يسبب تكرار ما سمي في 2013 بـ Taper Tantrum، حيث خرجت رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة مع توارد الأخبار عن إنهاء الفيدرالي الأمريكي لبرنامج التيسير الكمي الذي كان قد بدأه في أعقاب الأزمة العالمية في 2008.
المزاج الاستثماري
فكل التخوف هنا، أن تتأثر الأسواق الناشئة إذا أصبح المزاج الاستثماري عالمياً محابي للأسواق المتقدمة، أو أن يؤثر ذلك على سبيل المثال على عملاتها أو يضطرها تباعاً للدخول في حلقات من التشديد النقدي ورفع أسعار الفائدة بدورها وهو آخر أمر تحتاجه تلك الدول في المرحلة الحالية.
حيث أن الأولوية الأولى لتشجيع النمو وعودة النشاط الاقتصادي للتسارع والتوسع على النحو المطلوب وهو أمر يتنافى مع رفع تكلفة الائتمان. من ناحية أخرى لا تقل أهمبة، يتسبب ارتفاع أسعار الفائدة في زيادة أعباء تكلفة الدين الحكومي حتى إذا لجأت الحكومات إلى الاقتراض المحلي، وهو أمر ليس في صالح الموازنات العامة لتلك الدول في وقت لم تلملم بعد جراح جائحة كورونا التي سببتها على صعيدي الإنفاق العام والإيرادات الضريبية، وهو ما ستقرأه وكالات التصنيف الائتماني بسهولة مما قد يزيد الأمر تعقيداً.
فالسؤال هنا... هل الأسواق الناشئة مستعدة لمواجهة ما يمكن أن يحدث في عالم ما بعد كورونا؟ أم أن الجائحة الصحية ستخلف وراءها جائحة اقتصادية لا تقل خطورة؟ هذا ما سوف نعرفه في السنوات القادمة.
(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)
(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)
لقراءة مقال سابق لنفس الكاتبة:
هل تتلون البنوك المركزية باللون الأخضر؟
استراتيجيات إدارة الدين العام.. هل يعمل زر إبطال القنبلة بكفاءة..؟ (2)
استراتيجيات إدارة الدين العام.. هل يعمل زر إبطال القنبلة بكفاءة..؟
كيف دخل السودان الحلقة المفرغة...؟
لماذا خفضت موديز تصنيفها الائتماني لتونس؟
© Opinion 2021
المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.