PHOTO
العملة المحلية تحت ضغط. معدلات التضخم خرجت عن السيطرة. وتكلفة الديون المحلية في أعلى مستوى لها منذ عقود. للوهلة الأولى قد تعتقد أن كل هذه الظروف تتحدث عن سوق ناشئة أو دولة نامية. لكن في الحقيقة أنها تنطبق على المملكة المتحدة.
اليوم، الجنيه الإسترليني في أزمة ومعدلات التضخم في المملكة المتحدة مرتفعة عند أعلى مستوى لها منذ 40 عام والعائد على السندات الحكومية عالٍ جداً عند أعلى مستوى له منذ 20 عام. إنها ملامح تعكس الوضع الحالي للأزمة الاقتصادية التي بدأت تعصف بالمملكة المتحدة جراء القرارات الأخيرة التي تم اتخاذها من قبل الحكومة الجديدة برئاسة ليز تراس زعيمة حزب المحافظين وأعلنها وزير الخزانة البريطانية كواسي كوارتنج. فهل تعاني المملكة المتحدة من جراء السياسات المالية التي قد يسميها البعض متهورة أو غير مدروسة أم تخرج من أزمتها سريعاً؟
الأزمة الاقتصادية البريطانية في فترة السبعينيات
نفس هذه الملامح تتطابق مع فترة أوائل السبعينيات عندما واجهت المملكة المتحدة ظروف مشابهة تحت قيادة نفس الحزب. ما زاد الطين بلة وقتها هو أزمة النفط في عام 1973 بعد اندلاع حرب أكتوبر عندما ارتفعت أسعار النفط وارتفعت معها أسعار الطاقة في أوروبا.
في ذلك الوقت، الموجة التضخمية بدأت مع إقرار ميزانية أنتوني باربر وزير الخزانة وقتها في عام 1972 وكان الهدف الأساسي منها هو إعادة حزب المحافظين مرة أخرى للمشهد السياسي في انتخابات عام 1974 أو 1975.
في ميزانية عام 1972، تم ضخ 2.5 مليار جنيه إسترليني في الاقتصاد في صورة معاشات ومزايا أكبر وخفض للضرائب.
بالفعل، ساعدت هذه الميزانية على تحقيق النمو ولكن لفترة وجيزة فيما يُعرف باسم "The Barber Boom" أو "ازدهار باربر" ولكن سريعاً ما دخل الاقتصاد البريطاني في دوامة الأجور والأسعار مع ارتفاع في التضخم وانخفاض في قيمة العملة حتى بلغت الأزمة ذروتها عام 1976 فما يُعرف باسم "أزمة الجنيه الإسترليني".
لذا، اضطر باربر إلى وضع تدابير لمكافحة التضخم، إلى جانب لجنة للأسعار ومجلس للرواتب.
ولكن في النهاية، خسر حزب المحافظين الانتخابات عام 1974 لصالح حزب العمال بقيادة هارولد ويلسون، بعد اندلاع إضرابين لعمال المناجم في عامي 1972 و1974 حيث أدى الأخير إلى عمل المصانع ثلاثة أيام فقط في الأسبوع لترشيد الطاقة. لكن مشكلة المملكة المتحدة الاقتصادية لم تكن وليدة السياسات المالية في السبعينيات فقط ولكنها بدأت قبل ذلك بكثير.
في عام 1830، كانت حصة المملكة المتحدة من الإنتاج الصناعي العالمي 9.5% فقط حتى ارتفعت إلى 22.9% في سبعينيات القرن التاسع عشر ثم بدأت تنخفض لتصل إلى 13.6% بحلول عام 1913 و10.7% عام 1938 و4.9% عام 1973.
ويُعزى هذا الانحدار الصناعي في المملكة المتحدة إلى المنافسة الخارجية، والنقابات العمالية، ودولة الرفاهية، وانحسار الإمبراطورية البريطانية، والافتقار إلى الابتكار.
ثم تفاقمت الأزمة مع أزمة طاقة عالمية، وتضخم مرتفع، وتدفق رهيب للسلع منخفضة التكلفة المصنعة في آسيا.
الأزمة الاقتصادية البريطانية حالياً
بعد حوالي 50 سنة، تولت تراس رئاسة الحكومة البريطانية كثالث امرأة بعد مارجريت تاتشر (1979-1990) وتريزا ماي (2016-2019) وهن الثلاثة من حزب المحافظين أيضاً.
ولكن لم تكد تراس تتولى مقاليد الحكم حتى بدأت تواجه تحديات عديدة أخرى والتي تتشابه أيضاً مع نفس التحديات التي واجهتها الدولة في أوائل السبعينيات.
فأسعار النفط مرتفعة (وإن كانت بدأت في الانخفاض مؤخراً) ولكن اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي المستورد من روسيا ومن غيرها دفع أسعار الطاقة للارتفاع بصورة كبيرة مما دفع الحكومة الحالية على اتخاذ إجراءات تحد من ارتفاع تكلفة المعيشة للمواطنين البريطانيين.
بالفعل، الخطة التي أعلنها كوارتنج، والتي أسماها البعض "تجربة أيديولوجية"، ستتطلب 72 مليار جنيه إسترليني إضافية خلال الستة أشهر القادمة وحدها وهو ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض في الأسواق.
الخطة شملت أولويتين: (1) تحفيز النمو الاقتصادي، وذلك عن طريق خفض الضرائب مثل إلغاء معدل الضريبة 45% على أصحاب الدخول المرتفعة وإلغاء الحد الأقصى لحوافز المصرفيين و(2) خفض تكلفة الطاقة، بوضع حد أقصى لفواتيرها السنوية لكل أسرة عند 2500 جنيه إسترليني بدلاً من 6500 جنيه إسترليني متوقعة في عام 2023. وهو ما دعا البعض إلى اعتبار أن هذه "الميزانية الصغيرة" (والتي شملت أكبر خفض للضرائب منذ 50 عام، أي منذ حكومة حزب المحافظين عام 1972) ستؤدي إلى زيادة عدم المساواة بين المواطنين. لذلك، تراجعت الحكومة البريطانية بعدها عن إلغاء معدل الضريبة 45% على أصحاب الدخول المرتفعة.
ولكنها قررت الإبقاء على تخفيض أقل معدل ضريبة وهو ما سيكلف الدولة أكبر بكثير من إلغاء معدل الضريبة الأعلى من حيث الإيرادات التي سيتم فقدها. وهو أيضاً ما دعا ستاندرد آند بورز إلى تخفيض الرؤية المستقبلية للديون السيادية للمملكة المتحدة لـ "سلبية" مما يعني أنه قد يكون هناك احتمال لتخفيض التصنيف الائتماني.
هل تلجأ بريطانيا مرة أخرى لصندوق النقد الدولي؟
من جانبه، انتقد صندوق النقد الدولي الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة لبريطانيا علناً وخصوصاً بعد انهيار كبير في أسواق السندات أجبر بنك إنجلترا على التعهد برد فعل "كبير" لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد.
ويرى الاقتصاديون أن ثقة المستثمرين المتدنية لن تتعافى إلا إذا أُلغيت الخطة.
تاريخياً، يتمتع صندوق النقد الدولي بأهمية رمزية في السياسة البريطانية بعد وضع خطة إنقاذ لبريطانيا في عام 1976 في أعقاب أزمة عجز ميزان المدفوعات وانهيار الجنيه الإسترليني، مما دفع حكومة حزب العمال الأقلية وقتها بقيادة جيمس كالاهان إلى اقتراض 3.9 مليار دولار أمريكي من صندوق النقد الدولي لدعم العملة المحلية.
لكن مع تكرار الإضرابات مؤخراً (من جانب اتحادات العمال في القطارات والنقل هذه المرة مطالبين بزيادة أجورهم)، هل تلجأ بريطانيا مرة أخرى لصندوق النقد الدولي؟ الإجابة هي في الأغلب "لا" لكن يبقى السؤال إذا كانت حكومة تراس ستتراجع عن خطتها التي أسماها الخبير الاقتصادي محمد العريان بـ "المقامرة".
في النهاية، سيعزز نجاح حكومة تراس في تجاوز الأزمة الاقتصادية من قوة حزب المحافظين في الانتخابات البريطانية القادمة في 2025. ولكن إذا خسرت الانتخابات، هل يتجنب حزب العمال ما حدث منذ أكثر من 40 عام ويتمسك بالحكومة لفترة أطول أم سيسلمها مرة أخرى لحزب المحافظين؟
(إعداد: عمرو حسين الألفي، المحلل المالي بزاوية عربي ورئيس قسم البحوث في شركة برايم لتداول الأوراق المالية في مصر وهو حاصل على شهادة المحلل المالي المعتمد "CFA")
( للتواصل zawya.arabic@lseg.com)
#مقالرأي