PHOTO
تطور الشمول المالي في مصر يعيد إلى الأذهان ثورة الاتصالات في مصر خلال الثلاث عقود الماضية.
ففي 1995، لم يكن هناك مشترك واحد في خدمات المحمول في مصر نظرا لبدء تقديم الخدمة في 1996.
و لكن، بعد أقل قليلا من 30 عام، تتنافس حاليا أربع شركات كبرى لتقديم خدمات الاتصالات والبيانات عبر شبكة الإنترنت. و بفضل هذا التوسع في الاستثمار في البنية التحتية، أصبح عدد مشتركي الهاتف المحمول حوالي 103 مليون مشترك في آخر مارس 2023 وعدد المشتركين في خدمات الإنترنت من خلال الهاتف المحمول حوالي 70 مليون مشترك.
وعلى ما يبدو أن نفس التجربة سوف تتكرر في القطاع المصرفي مع منافسة البنوك الرقمية البنوك التقليدية.
ففي 12 يوليو 2023، أصدر المركزي المصري بيان بخصوص البدء في إصدار تراخيص للبنوك الرقمية. والبنوك الرقمية (digital banks) هي بنوك تقدم معظم أو كل خدماتها عن طريق شبكة الإنترنت بدلا من تقديمها من خلال مقر رئيسي و فروع وتعامل الجمهور مع موظفي البنك وجها لوجه.
ولعل أبرز ما جاء في بيان المركزي هو تقسيم الرخصة إلى نوعين بحسب نطاق الخدمات المقدمة. فالحد الأدني لرأس المال المدفوع للبنوك الرقمية التي ستقتصر خدماتها على تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة والأفراد هو 2 مليار جنيه.
أما الحد الأدنى لرأس المال المدفوع للبنوك الرقمية التي ستنافس البنوك التجارية التقليدية في تمويل الشركات الكبرى فهو 4 مليار جنيه ويشترط مساهمة أحد البنوك التجارية التقليدية بنسبة 30% في رأس المال.
وللتذكير، فإن الحد الأدني لرأس المال المدفوع للبنوك التجارية التقليدية هو 5 مليار جنيه وهو ما يعني أن البنوك الرقمية ذات الرخص المتكاملة ستكون قادرة على منافسة البنوك التقليدية بل قد تلتهم من حصتها السوقية خلال فترة وجيزة نظرا لانخفاض تكلفة التشغيل مقارنة بنظيرتها التقليدية.
ما المميزات؟
طبقا لبنك التسويات الدولية (Bank for International Settlements)، وهي مؤسسة دولية مملوكة لعدد من البنوك المركزية العالمية، فإن المميزات الأساسية للبنوك الرقمية هي كالآتي:
1 - خفض تكاليف إنشاء و إدارة البنوك، التقليدية.
2- الاعتماد التام على الذكاء الاصطناعي في تحديد مخاطر العملاء والسيطرة عليها بدون حاجة لرهن ضمانات مادية.
3- سهولة وصول الخدمات المصرفية البنكية للأفراد غير المشمولين بالخدمات البنكية في أطراف الدولة و المحافظات البعيدة عن العاصمة والمدن الكبرى مما يحقق أهداف ما يعرف بالشمول المالي.
و في حالة دول ناشئة عديدة مثل مصر، فإن اتساع حجم المعاملات المالية من خلال المصارف التقليدية أو الرقمية له أبعاد اقتصادية هامة خاصة فيما يتعلق بالحصيلة الضريبية واستدامة الدين العام وبالتالي استقرار سعر الصرف على الأمد الطويل.
لماذا سمح المركزي للبنوك الرقمية باقتحام السوق المصرفي الآن؟
انضمام البنوك الرقمية إلى ال36 بنك تجاري تقليدي عامل في مصر سيساهم في تسارع وتيرة انضمام المصريين إلى القطاع المصرفي الرسمي بدلا من الاعتماد على البنكنوت في تعاملات السوق غير الرسمي.
فطبقا لبيانات البنك المركزي المصري، وصل عدد المواطنين الذين لديهم حسابات في البنوك وحسابات في مكاتب البريد بالإضافة إلى محافظ الهاتف المحمول والبطاقات مسبقة الدفع (مثل بطاقة ميزة) إلى حوالي 40 مليون مواطن من إجمالي 65 مليون مواطن بالغ (أكبر من 16 عام) وهو ما يعادل 60% من السوق المستهدف (addressable market) فقط.
أيضا، مع تزايد اعتماد الأفراد على التعامل الرقمي، سيضطر القطاع غير الرسمي إلى التحول تدريجيا إلى نظم المدفوعات والمعاملات المصرفية الرقمية. وهذا التحول بدأ بالفعل خلال ال15 عام الماضية مع دخول شركات الدفع الإلكتروني مثل e-finance في عام 2005 وفوري في 2007 السوق المصري.
فعلى سبيل المثال، بلغت قيمة التعاملات من خلال شبكة فوري ما يقارب ال205 مليار جنيه في 2022 بعد مرور 15 عاما فقط على إنشاء الشركة.
وسيساعد اتساع نطاق التعاملات الرقمية الدولة على حصر حجم المعاملات التجارية و بالتالي سهولة تحديد وتحصيل الضريبة بأنواعها سواء مباشرة أو غير مباشرة. فنسبة الضريبة المحصلة من قبل وزارة المالية في العام المالي السابق إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتخطى ال12% وهو الحد الأدنى في الدول الناشئة والتي تتراوح النسب فيها من 15 الي 20%.
وفي حال جذب استثمارات أجنبية في قطاع البنوك الرقمية، قد تساهم طرح رخص البنوك الرقمية في دعم خطة الدولة في تمويل الفجوة في ميزان المدفوعات بدون الضغط على الاحتياطي.
فلو تم طرح 4 رخص للخدمات المتكاملة بحد أدنى لرأس المال المدفوع يساوي 16 مليار جنيه على سبيل المثال، سيحصل المركزي على ما يعادل نصف مليار دولار.
من المتوقع أن يؤدي دخول البنوك الرقمية إلى احتدام المنافسة بصورة ملحوظة في قطاع البنوك التجارية في مصر نظرا لاختلاف هيكل التكاليف بصورة ملحوظة بين البنوك التقليدية و البنوك الرقمية.
فمتوسط نسبة التكاليف الإدارية إلي إيرادات البنوك التقليدية تقارب ال40% ومن المتوقع أن تقل النسبة كثيرا في البنوك الرقمية نتيجة غياب الاستثمار في الفروع و العنصر البشري.
وبالتالي، فمن المتوقع أن تتسارع وتيرة استثمار البنوك التجارية التقليدية في تقديم خدمات رقمية لمواجهة المنافسة الشرسة المتوقعة. والجدير بالذكر أن القطاع المصرفي في مصر - مثله مثل العديد من دول العالم - قطاع يتسم بالتركز الشديد.
فنسبة إجمالي أصول أكبر 4 بنوك في مصر إلى إجمالي أصول القطاع المصرفي تساوي حوالي 60%. وبالتالي، فإن تحول هذا القطاع من قطاع شديد التركز إلى قطاع شديد التنافسية سيكون له فوائد عديدة للمستهلك و لكنه تحدي لا يستهان به للبنوك التقليدية.
هل هناك مخاطر من التوسع في تقديم الخدمات المالية الرقمية؟
قد تكون المشكلة الأكثر شهرة هي تعرض الحسابات لمخاطر الهجمات السيبرانية.
ولكن قد يكون هناك خطر أكبر من هذا وهو الارتفاع الحاد في القروض الشخصية في مصر مما قد يفقد الدولة أحد أهم نقاط قوتها وهي انخفاض حجم القروض الشخصية وقروض الشركات مقارنة بمديونيات القطاع العام.
ففي مارس 2013، بلغت القروض القائمة للقطاع العائلي في مصر حوالي 120 مليار جنيه. ولكن نظرا لتفاقم معدلات التضخم خلال ال10 سنوات الماضية واعتماد الكثير من المصريين على تمويل مشترياتهم من خلال كروت الائتمان أو القروض الشخصية، فمن المتوقع أن تقترب القيمة من 800 مليار جنيه في منتصف 2023 أي بنسبة نمو سنوي تقترب من ال21%.
وبالتالي، من المتوقع أن يتزامن مع دخول البنوك الرقمية السوق المصري تعاظم دور ما يعرف بالإجراءات الاحترازية الكلية (macroprudential regulations) للحد من أي ارتفاع حاد في مستوى مديونيات الأفراد والشركات.
(إعداد: هاني جنينة، محلل اقتصادي و محاضر بكلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة)
( للتواصل zawya.arabic@lseg.com)
#مقالرأي