PHOTO
أقر مجلس النواب اللبناني في 26 يناير مشروع قانون موازنة عام 2024، وهو أمر يختلف عن السنوات السابقة حيث تمت الموافقة ضمن المهلة الدستورية الممنوحة لإقرار المشروع. الموازنة، التي أقل ما يمكن وصفها به هو أنها تدميرية، تفتقر للرؤية الاقتصادية ولإصلاحات جذرية يحتاجها لبنان للخروج من أزمته المالية الحالية.
وفي حين أن تلك كانت المرة الأولى منذ عشر سنوات التي تقدم فيها الحكومة الموازنة لمجلس النواب في وقتها المحدد، إلا أن ذلك لا يُعتبر مؤشر إيجابي على التحسن في إدارة المالية العامة للدولة.
إذ أن إعداد الموازنة ما هو إلا عملية محاسبية لتحديد هياكل النفقات والإيرادات، ولا يعكس تحقيق أهداف سياسات تسعى لتعافٍ اقتصادي شامل، رغم إيجابية خطوة الامتثال للمواعيد الدستورية في تقديمها.
تستند إيرادات موازنة 2024 إلى زيادة في الضرائب غير المباشرة تؤثر على المواطنين بشكل عام، مما يعكس غياب العدالة الضريبية.
فيما تمثل رواتب وأجور موظفي القطاع العام جزء كبير من نفقات الموازنة، حيث يصل عددهم إلى حوالي 210 ألف موظف مدني و120 ألف عسكري. ومخصصات الأجور تلك تأتي في وقت توصي فيه معظم التحليلات الاقتصادية والمالية بضرورة إجراء هيكلة للقطاع العام كجزء من الإصلاحات اللازمة لتحقيق الاستقرار المالي في لبنان.
وتبدأ السنة المالية في لبنان في يناير من كل عام وتنتهي في ديسمبر، وهو ما يعني أن الزيادة المقررة في الضرائب في 2024 ستُحصّل بأثر رجعي.
أبرز البنود
تتسم موازنة 2024 بضعف الإنفاق الاجتماعي والرأسمالي، في حين تشهد الضرائب زيادات ملحوظة.
وتعكس ملامح الموازنة أن الإعداد السريع لها ما هو إلا تحرك لإرضاء صندوق النقد الدولي على أمل التوصل لاتفاق قرض معه، ولا يُظهر على وجه الواقع إدارة فعالة للمالية العامة. وكثيرا ما قال صندوق النقد إن الحكومة اللبنانية لم تقدم على إصلاحات مطلوبة كشروط مسبقة من أجل التوصل إلى اتفاق.
وكان مجلس الوزراء خصص ستة أيام فقط لمراجعة وتمرير مشروع الموازنة الذي قدمته وزارة المالية، مما يُشير إلى تسرع في هذه العملية دون مراعاة كافية لتحقيق التوازن والتأكد من تحقيق أهداف اقتصادية مستدامة.
من أبرز ملامح موازنة لبنان لعام 2024 هو عدم وجود عجز، إذ تتوقع الحكومة أن تكون الإيرادات والنفقات متساوية.
لكن الحكومة تتجه لزيادة ضريبة القيمة المضافة في محاولة يائسة لتأمين الإيرادات، دون مراعاة لتأثير ذلك على الاستهلاك في المستقبل، إذ أن زيادة الضرائب من شأنها أن تؤدي إلى تقليل الاستهلاك، وهو ما قد يتسبب مستقبلا في انخفاض العائد الحكومي من الضرائب.
ووفقا لموازنة 2024، من المتوقع أن تبلغ الإيرادات الضريبية الإجمالية نحو 243.1 تريليون ليرة، وتشكل أكثر من 78% من إجمالي إيرادات الحكومة البالغة 308.4 تريليون ليرة. ويتوقع أن تأتي غالبية هذه الإيرادات (أكثر من 55%) من الضرائب غير المباشرة، حيث من المقرر أن تصل إيرادات الضرائب على السلع والخدمات المحلية إلى 141.4 تريليون ليرة، بزيادة كبيرة مقارنة بتقديرات موازنة 2023.
وتتضمن موازنة 2024 زيادة كبيرة في نسب ضرائب، حيث وصل بعضها إلى مستويات تعادل عشرات الأضعاف مقارنة بالرسوم السابقة. وتشمل هذه الضرائب العديد من المجالات، مثل الرسوم البلدية -التي تحصلها البلديات من المواطنين القاطنين بنطاقها- وإخراجات القيد (كوثيقة الهوية الحكومية) ورسوم السفر والسيارات الصديقة للبيئة.
لكن مع استمرار الاعتماد على الأدوات الضريبية العشوائية لتعزيز الإيرادات العامة، يزداد العبء على المواطنين ذوي الدخل المتوسط والمحدود. وفي هذا السياق، يشار إلى أن موازنة 2024 تضمنت تخفيض الحد الأدنى لتطبيق ضريبة القيمة المضافة، ليشمل الشركات التي تحقق مبيعات سنوية تبدأ من 5 مليار ليرة، مما سيؤثر سلبا على الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وتسود مخاوف بشأن قدرة الدولة على ضمان الامتثال للضرائب المفروضة بسبب ضعف إدارتها الضريبية وتفشي الاقتصاد القائم على تبادل النقد (اقتصاد الكاش غير الخاضع للمراقبة)، ما يدفع إلى التساؤل حول فعالية هذه التغييرات في السياسات المالية.
يلتزم مشروع موازنة 2024 بالنظام السابق لضريبة الدخل، الذي يُحسن وضع أصحاب الدخل المرتفع على حساب الشرائح ضعيف الدخل، مما يزيد من العبء الضريبي على هذه الفئة.
غياب الرؤية
تتجاهل الحكومة بشكل واضح الحاجة الملحة إلى تعزيز الخدمات الاجتماعية، حيث تعاني وزارات الخدمات وصناديق التأمين الاجتماعي في لبنان من خسائر مالية كبيرة منذ نهاية عام 2019 مع بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان.
وخلال الفترة الممتدة بين عامي 2019 و2023 شهدت القيمة الفعلية لموازنات وزارات الخدمات انخفاض بنسبة 88%، وصناديق التأمين الاجتماعي بنسبة 69%، وذلك في ظل تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية بلبنان بشكل غير مسبوق.
وفي ما يتعلق بوزارات الخدمات، فقد خُصص لها في 2024 موازنات متفاوتة، حيث حصلت وزارة التربية والتعليم العالي على موازنة تمثل نسبة 14% من حجم ميزانيتها لعام 2019، بينما حصلت وزارة الشؤون الاجتماعية على نسبة 33%، ووزارة الصحة على نسبة 85%. يظهر ذلك بوضوح التفاوت في التوزيع والاهتمام في ما يتعلق بتعزيز القطاع الاجتماعي في لبنان.
مما يشير أيضا لغياب الرؤية في وضع الموازنة أن احتياطي موازنة عام 2024 يشكل حصة كبيرة من إنفاق الحكومة، وهو ما يزيد خطر الإنفاق الاستنسابي -الذي يكون حسب التقدير في كل حالة- ويفتقر إلى الرقابة الملائمة من قبل مجلس النواب.
واحتياطي الموازنة هو الذي يُترك للإنفاق الطارئ ولا يحدد مسبقا الهدف أو الغرض من إنفاق الأموال. ويتطلب إنفاق هذه الأموال موافقة مجلس الوزراء، ويمكن استخدامها في أنشطة متنوعة، مثل تمويل فواتير المستشفيات أو شراء سلع وخدمات غير المنصوص عليها في الموازنة.
ومن المتوقع أن يصل احتياطي الموازنة إلى نحو 38.3 تريليون ليرة، ما يُمثل 12.5% من إجمالي النفقات، وهو مستوى مرتفع. ولا يشير هذا الارتفاع فقط إلى ضعف في التخطيط المالي، ولكنه يستنزف أيضا دور مجلس النواب كمراقب للإنفاق العام.
وفي العادة ينبغي أن يكون لدى مجلس النواب دور أكبر في الرقابة على الإنفاق الحكومي، لكن زيادة حجم الاحتياطي تقلل من تأثير مراقبة البرلمان ومشاركته في توجيه السياسات المالية بشكل فعّال.
تخبط مستمر
في ختام النظرة الشاملة على موازنة لبنان لعام 2024، يظهر بوضوح أن هذه الموازنة تفتقر إلى الرؤية الاقتصادية اللازمة وتعتمد بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة التي تؤثر بشكل كبير على المواطنين.
عدم وجود إصلاحات جذرية وتخطيط كافٍ يعكسان عجز في التحكم في الأزمة المالية التي يعيشها لبنان منذ سنوات. فهناك استمرارية في تجاهل القضايا الاجتماعية الحيوية وعدم تحسين توزيع الإنفاق الحكومي، مما يظهر هشاشة التخطيط والتنظيم الذي ينبغي تعاظمهما لتحقيق الاستقرار المالي.
من خلال الاعتماد المتسارع على الأدوات الضريبية العشوائية والتسرع في إعداد الميزانية، يظهر أن هناك نقص في التواصل الشفاف مع المواطنين حول الخطوات المتخذة والتأثير المتوقع عليهم.
ويعكس ارتفاع حجم الاحتياطي في الميزانية عدم وجود رقابة فعّالة، كما يتساءل البعض عن إمكانية استخدام هذه الأموال بطريقة أفضل في دعم الخدمات الاجتماعية وتعزيز الشفافية والمساءلة.
في النهاية، يجب على الحكومة اللبنانية النظر في تحسين توجيه السياسات المالية والتحكم في الأزمة الاقتصادية. وتحتاج الحكومة القيام بإصلاحات اقتصادية جذرية وتعزيز الشفافية في إدارة المال العام. من دون ذلك، يتوقع أن يظل الضغط الاقتصادي على المواطنين قائما، مع زيادة التأثير السلبي على حياتهم اليومية ومعيشتهم.
(إعداد: محمد طربيه، أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)
#مقالرأي
(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)