PHOTO
في شوارع ضيقة لا يتعدى عرضها 5 أمتار، عندما تقف في منتصف الشارع وتنظر إلى أعلى بالكاد تستطيع ان ترى جزء صغير جدا من السماء، فالأبراج التي ترتفع لأكثر من 13 طابق على الجانبين حجبت الشمس من الدخول إلى تلك الحارة.
"كنت بشتري منزل قديم مكون من طابقين أو ثلاثة في فيصل أو الهرم (مناطق قريبة من أهرامات الجيزة) واهدمه وأبني بدلا منه برج مكون من 12 أو 13 طابق،" بحسب شريف عبد الغفار أحد المقاولين الذي اعتاد بناء أبراج كثيرة في مناطق مختلفة في هذا المكان لزاوية عربي.
وأضاف: "يضم البرج أكثر من 50 شقة. ابيعهم ونكسب ..لكن الآن لا تستطيع أن تبني أكثر من 4 طوابق. فلن تجني أي أرباح. لذا لم نعد نعمل في المجال".
في مثل هذا الوقت منذ عامين تقريبا أصدرت الحكومة المصرية قرار بوقف البناء لتواجه "غول العشوائيات " كما وصفها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حديث سابق له، ثم سمحت مرة ثانية بعد 6 أشهر بالبناء لكن باشتراطات صارمة تضمنت الالتزام بارتفاع محدد للمبنى يتناسب مع عرض الشارع، وكذلك البناء على نسبة محددة من قطعة الأرض السكنية، وتوفير جراج خاص بالسكان.
وتسببت هذه التطورات في توقف حركة البناء في الأماكن التقليدية لكنها فتحت سوق كبير للمطورين العقاريين لبناء آلاف الشقق في المدن الجديدة التي بطبيعة الحال تلتزم بالاشتراطات الجديدة.
وطبقا لبيانات مجلس الوزراء يوجد في مصر 221 منطقة غير مخططة أي "عشوائية" تم تطوير 53 منطقة وجارى تنفيذ 79 منطقة أخرى. والبعض يقول ان الأرقام الرسمية أقل من الواقع.
ولكن "تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن"، فقد عانى معظم المطورين العقاريين حتى العاملين في المدن الجديدة خلال الفترة الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء المتسارعة وتوقف العمل لفترات بسبب الحرب الروسية الأوكرانية مما اضطر الشركات لتأخير تسليم الشقق للمتعاقدين.
وبعد جلسات جمعت مسؤولي تلك الشركات ومجلس الوزراء يوليو الماضي وافقت الحكومة على منحهم مهلة 6 أشهر لتنفيذ الأعمال بدأت في 25 يوليو.
تسارع أعمال البناء بوتيرة سريعة في مصر في الأعوام الأخيرة، أدى إلى تسجيل معدلات نمو إيجابية حتى في عز أزمة كوفيد-19، حيث نما الناتج المحلي لمصر في العام المالي 2019-2020 الذي انتهى في يونيو 2020 ب3.6%، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.
لكن دفعت الأزمة الأوكرانية أسعار الغذاء والطاقة لأرقام قياسية زادت من معدلات التضخم في مصر التي اضطرت أيضا لرفع سعر الفائدة لمواجهة ارتفاع الأسعار وخفض قيمة الجنيه بأكثر من 16%، ووضع ضغوط على الموازنة العامة تستلزم إعادة النظر في اولويات الإنفاق.
وعقد عدد من المطورين العقاريين جلسات عمل في مجلس الوزراء بإشراف وزير الإسكان للتوافق على آليات التعامل مع تداعيات الأزمة العالمية على القطاع وتخفيف حدتها، بحسب حسن حسين الخبير المالي ورئيس لجنة البنوك والبورصة بجمعية رجال الأعمال في مصر.
"طلبوا (المطورون) مد مهلة تنفيذ المشروعات وسداد أقساط الأراضي، على أن تتراوح المهلة بين عام إلى عامين،" بحسب حسين.
وأضاف أن المطالبات أيضا شملت: "زيادة المعروض من الحديد والأسمنت لخفض أسعارها بالسوق المحلي. غير أن الحكومة وافقت فقط على مهلة 6 أشهر إضافية على المواعيد المحددة لتنفيذ المشروعات أو سداد الأقساط الخاصة بالقروض الممنوحة لتلك الشركات".
مهلة غير كافية؟
ويرى حسين أن تلك المهلة غير كافية لمعالجة أزمات الركود التي تعاني منها الشركات.
"الأزمة تكمن في شراء تلك الشركات للأراضي والتي تقدر ثمنها ب 50 % تقريبا من حجم أموال المشروع. وكانت معظم تلك الشركات قد نجحت في تسويق نسبة لا تزيد عن 30% من مشروعاتها قبل التنفيذ وهذا ما وفر أموال لتنفيذ المشروع وسداد الأقساط الأولى للأرض".
"لكن مع ارتفاع أسعار مواد البناء والعمالة وأزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، أدى ذلك إلى تعرض تلك الشركات لأزمات مالية أدت إلى وقف الاستمرار في تنفيذ المشروعات أو التنفيذ بمعدل منخفض".
وذكر أحمد العتال رئيس شركة العتال هولدينج للتطوير العقاري لزاوية عربي، أن هناك موافقة من جانب شركة العاصمة الإدارية - وهو مشروع كبير يضم مجمعات سكنية وتجارية ومقر جديد للحكومة - على منح مهلة عام للمطورين لتنفيذ المشروعات، بجانب جدولة أقساط المطورين المتأخرين عن السداد.
أبراج فيصل والهرم
تعتبر هذه الأبراج الواقعة على مساحة 28 كم مربع تقريبا، مثال حي على البناء العشوائي في مصر، حيث ترتفع الأبراج في تلك المنطقة لقرابة 45 متر في شوارع لا يزيد عرضها على 5 أمتار، الأمر الذي يجعل بعض السكان في النوافذ المقابلة يتحدثون لبعضهما وكأنهما في شقة واحدة.
وبحسب علي رأفت، أستاذ العمارة بكلية هندسة في جامعة عين شمس المصرية: " أبراج فيصل والهرم فيه منها كتير في كل أحياء القاهرة الكبرى، صغار المقاولين جنوا منها أرباح طائلة مستغلين حالة الانفلات الأمنى وغياب الرقابة في فترة ثورة 25 يناير وبنوا أعداد مهولة من تلك الأبراج بتسهيلات من بعض العاملين في المحليات مستنقع الفساد في مصر".
"كنت أرى في الشارع الذي أسكن فيه يقيمون برج من 15 طابق في شهر واحد فقط. وده كارثة تؤكد أنه لا يوجد أية معايير أمان في البناء. ولذا نرى بين الحين والأخر أبراج جديدة تميل وتسقط على أرواح المواطنين الأبرياء".
"مين مجنون يروح يسكن في الصحراء؟ "
في فيلم "مطب صناعي" للنجم المصري أحمد حلمي وهو إنتاج 2006، كان والده يحاول ان يقنعه بالعمل والسكن في المدن الجديدة ولكن "حلمي" كان مولعا بشوارع القاهرة. فرد على والده بجملة استنكاريه اشتهرت بين المصريين لاحقا: "مين مجنون يروح يسكن في الصحراء؟ "، هكذا كان الحال منذ أكثر من 15 عام.
ظهرت المدن الجديدة في مصر مثل " 6 أكتوبر وبدر والسادات والعبور وغيرها" في الثمانينات ولكن بطء الدولة في إدخال المرافق قابله بطء أكبر في إقناع قاطني القاهرة الكبرى الانتقال إليها، بحسب عماد عيدروس رئيس مدينة السادات سابقا.
ومدينة السادات هي مدينة مصرية جديدة تقع في الظهير الصحراوي لمحافظة المنوفية وأنشأت بقرار من الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك عام 2005 لتصبح مجتمع عمراني جديد يرتكز على النشاطين الصناعي والزراعي بجانب السكني.
وأضاف: "في الفترة الأخيرة، الدولة اتخذت خطوات حفزت من خلالها المواطنين للانتقال إلى المدن الجديدة، منها.. إنشاء هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التي تحل محل المحليات في الأحياء القديمة لمواجهة فساد المحليات. بالإضافة إلى توفير الخدمات في تلك المدن الجديدة وربطها بشبكة طرق سريعة. مما جعل فكرة الانتقال إلى المدن الجديدة شيء يحسن من المستوى السكني للمواطن".
يوجد في مصر الآن 24 مدينة وتجمع سكني جديد من 9 في عهد مبارك، بحسب تقرير لمجلس الوزراء منذ نحو 4 شهور.
وتختلف الأسعار باختلاف موقع المدن الجديدة ومدى تطورها و طبيعتها التنظيمية، في مدينتي الشيخ زايد والتجمع الخامس يصل متر الأرض لقرابة 30 ألف جنيه أو نحو 1.6 ألف دولار، فيما تكون الأسعار أقل في مدن السادات وبدر حيث يصل سعر المتر لأقل من 4 آلاف جنيه أو نحو 200 دولار.
الشيخ زايد والتجمع ..حلم الرفاهية
بدأ إنشاء مدينتي الشيخ زايد والتجمع فى بداية التسعينيات.
"نجحت الحكومة في الاستغلال الأمثل للصورة التي يراها المواطن في مساكن كمبوندات الشيخ زايد والتجمع الخامس، فصنعت بالشراكة مع مطورين عقاريين مجمعات سكنية مجاورة لتلك الكمبوندات. لتبيع للمواطنين الشقق باسم المدينة،" بحسب محمد مصطفى أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة.
وأضاف: "يعني مثلا نفس الشقة في مدينة زايد بالتأكيد قيمتها السوقية أكبر بكثير من مثيلتها في مدينة بدر مثلا.. فأصبح الآن حلم كل شاب أو أسرة متوسطة الدخل أو فوق المتوسط بقليل ان تحصل على شقة في المدن الجديدة بعد أن كانت تلك الفكرة مستبعدة القبول" .
(إعداد: احمد حسن، تحرير: ياسمين صالح، للتواصل zawya.arabic@lseg.com)
#تحليلمطول
للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا