في الوقت الذي يحذر فيه الأطباء من الأضرار الصحية للتدخين على الفرد والمجتمع، يأتي الدخان كأحد السلع الأساسية التي تلتهم دخول كثير من الناس حول العالم. أيا كان حال الدخل أو الوضع الاجتماعي، يسعى المدخن لاكتساب لقمة العيش وتأمين حاجته من الدخان. لدرجة أنني سمعت كثير من أصحاب الحرف في مصر يطلقون كلمة "الدخان" على البقشيش أو الإكرامية التي يحصلون عليها نقدا. وكأنك إذا أردت أن تكافئ هذا الحرفي فليعطه ما يُباع به الدخان، ولا مانع من أن تمنحه بضع من السجائر مع كوب من الشاي.

ولا تتعجب عزيزي القارئ إذا قلت لك إن ما يدخنه الحرفي أثناء إنجازه لمهامه قد يعد تكلفة أساسية يتم تحميلها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر على تلك الأعمال. ولا أبالغ بقولي إن المدخن لن يصبح قادر على أداء عمله - بالشكل المعتاد – إذا ما ساءت حالته المزاجية نتيجة عدم توفر الدخان. حتى أن البعض يطلق عليه اسم "الكيف" في إشارة إلى مدى تأثيره على الحالة المزاجية للمدخنين وكيفية ممارستهم لأعمالهم اليومية.

ويبدو أن حالة المدخنين في مصر لم تكن على ما يرام خلال الفترة الماضية. فقد انحبست أنفاسهم في ظل نقص المعروض الذي شهده سوق الدخان – شأنه في ذلك شأن العديد من السلع – نتيجة نقص المواد الخام اللازمة لعمليات التصنيع كأحد الأعراض الأساسية لأزمة تدبير العملة الصعبة التي تعاني منها مصر على مدار أكثر من عام ونصف.

الأمر الذي دفع بعض التجار لتسعير منتجات التبغ -بشكل غير رسمي - بأعلى من الأسعار الرسمية. وعمل بعضهم على تخزينها طمعا في تحقيق مكاسب سريعة حال زيادة الأسعار وسط ترقبات بتحرك أسعار الصرف. تبع ذلك اندفاع كثير من المدخنين على شراء ما يفوق استهلاكهم اليومي لتأمين احتياجاتهم من الدخان لأطول فترة ممكنة.

عرض وطلب واستحواذ

ولتحقيق التوازن ما بين العرض والطلب في السوق، والعمل على ضبط أسعار منتجات التبغ، جاءت توجيهات الحكومة بتوفير المواد الخام اللازمة للشركة الشرقية للدخان "إيسترن كومباني" للعمل على ضخ كميات كبيرة من السجائر بالسوق. وتستحوذ إيسترن كومباني -التي كانت مملوكة للدولة المصرية بحصة حاكمة آنذاك - على نحو 75% من حجم سوق السجائر في مصر.

جاءت تلك الأحداث بالتزامن مع تأكيد الشركة الشرقية لأخبار متداولة عن تلقي مساهمها الرئيسي "الشركة القابضة للصناعات الكيماوية" -التابعة للدولة- لعدة عروض من مستثمرين أجانب للاستحواذ على حصة لا تتجاوز 30% من إجمالي حصة الشركة القابضة للصناعات الكيماوية والبالغة 50.95% من أسهم الشركة الشرقية للدخان. وذلك في إطار برنامج الدولة لطرح الشركات المملوكة لها بالبورصة بهدف توسيع مساهمة القطاع الخاص وتوفير المزيد من العملة الصعبة.

وبالفعل لم تمر أسابيع إلا وقد تم الإعلان عن توقيع اتفاقية بموجبها تستحوذ شركة "جلوبال للاستثمار" الإماراتية على 30% من إجمالي أسهم الشركة الشرقية "إيسترن كومباني" مقابل 625 مليون دولار أمريكي، ما يعكس تقييم الشركة عند 2.1 مليار دولار. أما الدولة متمثلة في الشركة القابضة للصناعات الكيماوية فسوف تحتفظ بحصة قدرها 20.9% من رأس مال الشركة الشرقية. كما تم الاتفاق على أن يقوم المشتري بتوفير مبلغ 150 مليون دولار لشراء المواد التبغية اللازمة للتصنيع.

الخامات

في تقديري، فإن توفير 150 مليون دولار لشركة الشرقية للدخان قد يكفي لاحتياجاتها من الخامات لمدة 6 أشهر تقريبا. حيث بلغت تكلفة الخامات  - ضمن تكلفة البضاعة المباعة - خلال العام المالي الماضي المنتهي في 30 يونيو2023 حوالي 7.2 مليار جنيه مصري أو ما يعادل نحو 280 مليون دولار. الجدير بالذكر أن إعلان الاستحواذ جاء بعد يوم من إعلان شركة الشرقية عن قرارها بزيادة إنتاج الشركة من السجائر بنسبة 15% مقارنة بالشهور السابقة، وذلك للعمل على طرح كميات إضافية من منتجاتها بالسوق.

 كما أتصور أن استحواذ مستثمر أجنبي على حصة حاكمة في صناعة استراتيجية مثل الدخان لن تقتصر فائدته فقط على دعم الشركة من خلال توفير العملة الصعبة اللازمة لتأمين احتياجاتها من الخامات لتوفير المنتجات بالسوق المحلي فحسب.  بل أرى أن الأمر سيتعدى ذلك بكثير ليشمل تطوير عمليات ومنتجات الشركة وفتح أسواق للتصدير. كما أن تخارج الدولة ولو بشكل جزئي من صناعة الدخان قد يحمل في طياته إشارات لفتح باب المنافسة أمام القطاع الخاص للدخول في تلك الصناعة بشكل أكبر مستقبلا.

الضرائب والرسوم

أما فيما يخص ما يؤول للدولة من شركة الشرقية للدخان، فيجب أن نفرق بين ما يؤول إليها كجهة سيادية وسلطة تنفيذية وبين ما يؤول إليها كمساهم.

 فالدولة كجهة سيادية تتحصل على ضرائب ورسوم كنسبة من أسعار بيع السجائر، بالإضافة إلى ضرائب الدخل كنسبة من صافي الأرباح الخاضعة للضرائب. ولا شك أن تلك الرسوم والضرائب لن تتأثر بتغير هيكل الملكية. أما ما يؤول للدولة كمساهم في صورة أرباح فيكون بحسب حصة مساهمتها في الشركة والتي انخفضت من 50.95% إلى 20.9%.

 الجدير بالذكر أن المبيعات الإجمالية للشركة الشرقية خلال العام المالي 2023 المنتهي في 30 يونيو الماضي بلغت 66.0 مليار جنيه شاملة ضرائب ورسوم بحوالي 48 مليار جنيه، أي أن نحو 73% من المبيعات الإجمالية آلت للدولة خلال العام المالي 2023. هذا بالإضافة إلى ضرائب الدخل خلال ذات العام بنحو 2.1 مليار جنيه. أي أن إجمالي المبالغ التي آلت للدولة كجهة سيادية بلغت نحو 50.2 مليار جنيه خلال العام المالي الماضي.

أرباح

في المقابل، فإن الشركة الشرقية حققت صافي أرباح بلغت 7.7 مليار جنيه خلال العام المالي 2023. أي أن نصيب الدولة من تلك الأرباح (بناء على حصتها قبل الاستحواذ عند 50.95%) بلغ 3.9 مليار جنيه. وإذا أخذنا في الاعتبار الحصة الحالية عند 20.9% فإن حصة الدولة في الأرباح تبلغ 1.6 مليار جنيه.

وبالتالي، فإن ما تحصل عليه الدولة المصرية من الشركة الشرقية في صورة رسوم وضرائب يفوق كثيرا نصيبها في الأرباح.

والسؤال: بعد تخارج الدولة المصرية من صناعة استراتيجية كالدخان في سبيل التعافي من أزمة العملة الصعبة، هل حان الوقت لبيع حصتها في فودافون؟

 سنجيب عن هذا السؤال في المقال القادم.  

 

(إعداد: محمود جاد، محلل مالي بسوق المال)  
 
#مقالرأي

(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)